وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي ، وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي وهل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي أكرمت به اباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها. فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري وسنتي ، وغروهم عني فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي.
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا بنعمتي ، وأمنوا مكري ، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي ، فهم يحرفون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم عليّ وغرة بي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني ، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي؟!
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون ، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعلمون ولا ينتفعون بشيء ما علموا من كتابي.
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون ، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون (١) مني ويرجعون ، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون. وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا؟ أبي يسخرون؟ أم بي يتحرشون؟ أم إياي يخادعون أم عليّ يجترئون؟ فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها ويضل رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم (٢) ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم ، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج ، وكأن حفيف (٣) راياته طيران النسور وحمل فرسانه كسرب (٤) العقبان ؛ يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا ويعيثون في الأرض فسادا ، ويتبرون ما علوا تتبيرا ، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون ولا يبصرون ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد ، تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الأحلام بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها ، فوعزتي لأعطلن بيوتهم من حديثها ودروسها ، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين ،
__________________
(١) و : يستخفون.
(٢) و : الحليم.
(٣) في و : خفيق.
(٤) في تاريخ الطبري (١ / ٦٦١ / ليدن) «كريد العقبان».