والمتكلّمون إنّما استشمّوا رائحة الحقّ فى إثبات سبق البطلان على ذوات المعلولات قاطبة ، لا فى تحصيل أنّ ذكر السّبق من أىّ الأنواع ، ولا فى قصرهم الإمكان على الحقائق الزّمانيّة ولا فى نفيهم معلوليّة ما لا يكون حادثا زمانيّا ، ومنعهم إسناد الدّائم بالدّوام الزّمانىّ الّذي ليس هو دواما فى وعاء الدّهر ، بل هو عدم اختصاص الحدوث فى الأعيان بزمان بعينه إلى العلّة الجاعلة.
ثمّ إنّ أكثر المتكلّمين لمّا لم يحصّلوا مذهب الفلاسفة ظنّوا بهم أنّهم لم يثبتوا قدرة اختياريّة للقيّوم الواجب بالذّات ، بل قدرة على سبيل الإيجاب ، وتوهّموا أنّ منشأ الخلاف فى قدم العالم وحدوثه إنّما هو الخلاف فى الإيجاب والاختيار ، والمعلول الأزلىّ يصحّ إسناده إلى الفاعل الموجب دون المختار ، لوجوب تقدّم القصد الاختيارى على تحقق الأثر المعلول قطعا.
وليس لهذه الظّنون والأوهام مبدأ فى كلام الفلاسفة ، ولا مناط فى أصول العلم وقوانين الحكمة بوجه من الوجوه أصلا. ولا خلاف هناك فى صفة الاختيار ، بل ليس يعقل. وإنّما الخلاف فى قدم العالم وحدوثه فقط. ولو فرض الخلافان فليس بينهما تعلّق لزومىّ ؛ إذ يمكن إسناد المعلول الأزلىّ إلى الفاعل الموجب وإلى المختار ، كما يمكن إسناد الحادث إليهما ، وتقدّم الاختيار يجوز أن يكون بالذّات كما يكون بالزّمان. فسبق الإيجاد قصدا كسبق الإيجاد إيجابا فى جواز كونهما بالذّات دون الزّمان وفى جواز كون أثرها قديما.
والفلاسفة لم يذهبوا (١) إلى أنّ الأزلىّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار ، بل ذهبوا إلى أنّ الفعل الأزلىّ يستحيل أن يصدر إلاّ عن فاعل أزليّ تامّ فى الفاعليّة وأنّ الفاعل الأزلىّ التّامّ فى الفاعليّة يستحيل أن يكون فعله غير أزليّ.
ولمّا كان العالم عندهم فعلا أزليّا أسندوه إلى فاعل أزليّ تامّ فى الفاعليّة ، وذلك فى علومهم الطبيعيّة. وأيضا لمّا كان المبدأ الأوّل عندهم أزليّا تامّا فى
__________________
(١). دفع لما نسبوه إلى الفلاسفة ، من أنّ الأزلىّ لا يستند إلى المختار ، سمع.