قلنا : إنّ الحكم بالجزئيّة هناك أيضا إنّما هو على سبيل المسامحة والتّشبيه ، لا على الحقيقة. أو يدقّق التّأمّل فيقال : إنّه إنّما يقع فى حيّز المفتاق ، لا فى حيّز المفتاق إليه ، فسبقه على الماهيّة بالطبع إنّما معناه : أنّ العقل بعد التحليل بلحاظ التّحصّل والإبهام يجد الجوهرىّ الموجد أحقّ ما يوجد أوّلا من تلقاء الجاعل ، لا بإيجاد منحاز ووجود مغاير ، بل بنفس إيجاده الماهيّة وبعين وجودها الّذي لها من تلقائه.
وأمّا الأجزاء العينيّة ، كالمادّة والصّورة الخارجيّتين ، فإنّما قوام جوهر الماهيّة بها بحسب خصوص وقوعها فى الأعيان ، فسبقها على الماهيّة باعتبار التّقرّر إنّما يكون بحسب خصوص تجوهرها فى الأعيان ، لا بحسب نفس الماهيّة بما هى هى.
وكذلك الأجزاء العقليّة ، كالمادّة والصّورة العقليّتين ، إنّما تقوم نفس الماهيّة بها بحسب خصوص تمثّلها فى العقل ، لا بحسب سنخ الماهيّة بما هى هى. ولذلك ما إنّ التّحديد ليس يصحّ إلاّ بالجوهريّات ، لا بالأجزاء العينيّة أو العقليّة ؛ إذ الحدّ إنّما يقع بما يدخل فى قوام الماهيّة المتقرّرة الموجودة بما هى هى ، لا بما هى موجودة.
وجاعل الماهيّة أيضا سبقه عليها سبق بالماهيّة ، وربما يتقدّم عليها تقدّما بالعلّيّة أيضا. وذلك إذا كان بذاته مبدأ إيجاب المعلول ؛ كالقيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى شأنه ـ بالقياس إلى المجعول الأوّل.
فإن لم يشترط فى المتقدّم بالطبع أن لا يكون متفرّدا بالعليّة ، بل يكون علّة غير مجدية، وإنّما اعتبر مجرّد أن يأخذ تقدّمه بحسب الوجود ، كان له ـ تعالى كبرياؤه ـ على مجعوله الأوّل تقدّم بالطبع أيضا ، حيث إنّ الوجود هناك ما به التّقدّم من حيث لحاظ بحت الفاعليّة وإن كان التّقدّم بالعلّيّة أيضا تقدّما متحققا من حيث إنّ هذا الفاعل موجب تامّ بذاته.
وأمّا سائر العلل ، فلا يلحظ فى سبقها على المعلول إلاّ الوجود ، والتّقرّر إنّما يلحظ بالعرض من حيث إنّ الوجود لا يفارق التّقرّر ، بل يتبعه لزوما على البتّ.
ثمّ إنّ للشّيء لواحق بحسب مرتبة تقرّر سنخ الماهيّة ، ولواحق بحسب مرتبة الوجود فى الأعيان أو فى الذّهن ، وفى اللّواحق بحسب مرتبة التّقرّر ، كالوجود