<٢٢>هتك وتصويب
من النّاس من تعوّد التّقليد ، ولم يألف النّظر فى الحقائق والاجتهاد فى العقليّات ، وسمع الحكماء الكرام والفلاسفة العظام يقولون : «كلّ ما قرع سمعك من غرائب عالم الطبيعة فذره فى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان» ؛ ولم يميّز الإمكان بمعنى الجواز العقلىّ ، أى عدم وضوح الضّرورة لأحد الطرفين عند العقل عن الإمكان الذّاتىّ ، وهو سلب ضرورة الطرفين عن الشّيء لذاته ، فظنّ أنّ الأصل فيما لم يتبرهن وجوبه أو امتناعه هو الإمكان.
وحيث لم يكن لغريزته مسلك إلى نيل ما حاولنا بسطه تبيانا لما عروق أصله منبتّة الانغراس فى أرض الغريزة الإنسانيّة ، وهو امتناع عود المعدوم بعينه ، تشبّث بهذا الظنّ الّذي هو أوهن ما تنسجه عنكبوت الوهم برهنة على إمكانه.
فيقال لهذا المتشبّث وإن لم يكن بما هذر يستأهل أن يستحقّ فضل الاشتغال بتوهين ظنّه : إن اريد بالأصل فى قولك هذا : ما هو بمعنى الكثير الرّاجح ، فكون أكثر ما لم يقم دليل على استحالته ووجوبه ممكنا غير ظاهر ، ولو فرض كذلك فغير نافع ، إذ يجوز أن يكون هذا من الأقلّ ؛ وإن أريد به معنى ما لا يعدل عنه إلاّ لدليل ، على ما هو المستعمل فى صناعتى الفقه واصول الفقه ، فهو باطل هاهنا ؛ إذ الوجوب والإمكان والامتناع ليس شيء منها أصلا بهذا المعنى ، بل كلّ منها مقتضى ماهيّة موضوعه. فما لم يحكم البرهان بأنّ الشيء من أىّ حىّ لم يعلم حاله.
وما قال شركاؤنا السّابقون فى الصّناعة ، معناه : أنّ ما لا برهان على وجوبه ولا على امتناعه لا ينبغى أن ينكر ، بل يترك فى بقعة الإمكان العقلىّ الّذي مرجعه الاحتمال فى بادى الأمر ، أو الإمكان العامّ بالمعنى الشّامل للواجب والممتنع أيضا ، لا أنّه يعتقد إمكانه الذّاتىّ. أفليس من أقوالهم : «إنّ من تعوّد أن يصدّق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الإنسانيّة».