وبذلك فهو يرفض الحرب التي تثيرها عصبية الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة ، ويرفضها بقصد الاكراه على الدخول في الإسلام ، أو بقصد جرّ المغانم والاستلاب وامتصاص ثروات الشعوب ، أو لأجل اكتساب الأمجاد الشخصية للملوك والقوّاد. وليس في الإسلام ما يُبيح المذابح الوحشية كما حصل في محاكم التفتيش في الأندلس ، والأحباش في الصومال وأرتيريا ، وفرنسا في الجزائر ، وبريطانيا في الهند وسائر مستعمراتها ، وروسيا في الشيشان ودول البلقان ، ويوغسلافيا في أقاليمها ، والصرب في البوسنة والهرسك وسراييفو ، والهند في كشمير ، وأمريكا في هيروشيما وناكازاكي وأفغانستان ، والصهيونية في كفر قاسم ، ودير ياسين ، وصبرا وشاتيلا ، وجنين ، وأغلب المدن الفلسطينية حالياً.
إنّ دراسة وجهة نظر الإسلام في شيء ما ، لابدّ وأن ترتكز على الجوانب النظرية والتطبيقية فيه ، مع الفصل بين الفكر المنحرف والتصرّف المرفوض إسلامياً وإن انطلق من دائرته ، وبين الفكر الإسلامي الأصيل المتجسّد على ضوء مفاهيم القرآن الكريم ومدرسة أهل البيت عليهمالسلام وفقهها الممتدّ إلى الوقت الراهن. ومن دون هذا الفصل ستُبنى نتائج الدراسة ـ سيما في عالم اليوم ـ على تلك التصرّفات الشاذّة من أمثال غزو الكويت ، وظهور الطالبان ، وجيش الصحابة ، وقاعدة ابن لادن ، وغيرها من تطرفات السلفية في تاريخها ، وتَوَهُّم أنها المعبّر الحقيقي عن الرؤية الإسلامية تجاه تلك المسائل ، فيساء ـ حينئذٍ ـ إلى سماحة الإسلام ، وطريقة انتشاره ، وأسباب حروبه ، وحقوق الأقليات الدينية فيه ونحوها. وبالتالي تحميله تبعة جهل تلك الحكومات وأعوانها عبر ما أفرزته سياساتها من انحراف ، وما تركته ممارساتها العملية من أخطاء متراكمة على الواقع المحسوس ، والإسلام بريء من كلّ هذا.
وهكذا شأن كلّ دراسة في هذا الحقل لا تأخذ بعين الاعتبار الفصل المذكور ، ولا تدرك فرقاً بين الماس والخزف ، ولا تعرف من هو المعبّر الأمين عن المضمون الواقعي لرسالة التوحيد ، كما نلحظه في معظم الدراسات الغربية التي اتهمت الإسلام بغمطه حقوق الأقليات الدينية وبالقسوة والتعسف والارهاب ، وأرجعت عوامل انتشاره إلى القوّة والبطش والاكراه !! في حين إن السلم والأمان يحظيان بقسط وافر في أدبيات الإسلام ، وما كانت حروب العهد النبوي إلاّ وسيلة للحماية من الاعتداء ، والوقاية من التحديات المضادة التي قام بها أعداء الإسلام والمتربّصون به الدوائر عند بدء انطلاقته من الجزيرة.
لقد رفض الإسلام اضطهاد أصحاب المعتقدات الدينية التي ارتضت العيش بسلام في داره ، فنظّم مبادئ العلاقات بينه وبين تلك الأقليات في المجتمع الإسلامي على أساس التوحيد ، وبذل لها من سماحته ، ورعايته ، وعدالته ما لم يوفّره نظام من الأنظمة التي عرفتها البشرية لمَن خالفهم في العقيدة والمذهب والاتجاه ، ومنحهم حرية البقاء على أديانهم ، وضمن لهم حقوقهم كاملة ، كحقّ التقاضي ، وإبداء الرأي ، مع الحماية القانونية لجميع الحقوق الاقتصادية والمالية ، وصيانة أموالهم وممتلكاتهم ، ومنحهم حقّ الضمان الاجتماعي ، وسائر الحقوق المدنية في الزواج ، والإرث ، والوصية ، والصدقة ، والوقوف ، مع حقن دمائهم ، وحماية أعراضهم ، ومعاملتهم بالحسنى ، مطبّقاً عليهم شريعته في العدالة والمساواة وعدّهم في هذا كالمسلمين سواءً بسواءٍ. وقد حفظت لنا مدرسة أهل البيت عليهمالسلامأمثلة رائعة من العدالة والسماحة والرعاية لتلك الأقليات الدينية الموجودة في دار الإسلام.
والكتاب الماثل بين يديك قد عالج هذا الموضوع الحسّاس على ضوء القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة ، ومدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، وما أفتى به عظماء فقهاء هذه المدرسة قديماً وحديثاً ، ولم يخرج عن هذا الاطار باعتباره المعبّر الجوهري عن واقع الدين الحنيف عقيدة وفكراً وشريعة. آملين أن يسدّ ثغرة لم تزل مفتوحة بوجه الإسلام إلى اليوم.
إنّه وليّ التوفيق. |
مركز الرسالة |