إبليس إلى قياس منطقيّ مادَّته مغالطة ، لأنّه استدلَّ أوَّلاً على خيريّته بأنَّ مادَّته من نار ومادَّة آدم من طين ، والنار خير من الطين فاستنتج من ذلك أن مادَّته خير من مادَّة آدم ثمَّ جعل ذلك صغرى ورتّب القياس هكذا : مادَّته خيرٌ من مادَّة آدم ، وكلُّ من كان مادَّته خيراً من مادَّة غيره يكون خيراً منه ، فاستنتج أنّه خير من آدم . ويرجع كلامه عليهالسلام إلى منع كبرى القياس الثاني بأنّه لا يلزم من خيريّة مادَّة أحد على غيره كونه خيراً منه ، إذ لعلّه تكون صورة الغير في غاية الشرافة وبذلك يكون ذلك الغير أشرف ، كما أنَّ آدم لشرافة نفسه الناطقة الّتي جعلها الله محلَّ أنواره ومورد أسراره أشدُّ نوراً وضياءاً من النار ، إذ نور النار لا يظهر إلّا في المحسوسات ، ومع ذلك ينطفىء بالماء والهواء ويضمحلُّ بضوء الكواكب ، ونور آدم نور به يظهر عليه أسرار الملك والملكوت ولا ينطفىء بهذه الأسباب والدواعي ، ويحتمل أن يكون المراد بنور آدم عقله الّذي به نوَّر الله نفسه وبه شرَّفه على غيره ، ويحتمل إرجاع كلامه عليهالسلام إلى إبطال كبرى القياس الأوّل بأنَّ إبليس نظر إلى النور الظاهر في النار وغفل عن النور الّذي أودعه الله في طين آدم لتواضعه ومذلّته ، فجعله لذلك محلَّ رحمته ومورد فيضه ، وأظهر منه أنواع النباتات والرياحين والثمار والمعادن والحيوان ، وجعله قابلاً لإفاضة الروح عليه ، وجعله محلّاً لعلمه وحكمته ، فنور التراب نور خفيٌّ لا يطَّلع عليه إلّا من كان له نورٌ ، ونور النار نور ظاهر بلا حقيقة ولا استقرار ولا ثبات ولا يحصل منها إلّا الرماد وكلُّ شيطان مريد . ويمكن حمل القياس هنا على القياس الفقهيّ أيضاً لأنّه لعنه الله اسنتبط أوَّلاً علّة إكرام آدم فجعل علّة ذلك كرامة طينته ، ثمَّ قاس بأنَّ تلك العلّة فيه أكثر وأقوى فحكم بذلك أنّه بالمسجوديّة أولى من الساجديّة ، فأخطأ العلّة ولم يصب وصار ذلك سبباً لشركه وكفره ، ويدلُّ على بطلان القياس بطريق أولى على بعض معانيه . وسيأتي تمام الكلام في ذلك وفي كيفيّة خلق آدم وإبليس في كتاب السماء والعالم ، وكتاب قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إن شاء الله .
٦ ـ ج : سأل محمّد بن الحسن (١) أبا الحسن موسى عليهالسلام بمحضر من الرشيد وهم
________________________
(١) هو محمد بن الحسن
الشيباني الفقيه الحنفي نشأ بالكوفة فطلب الحديث ولقى جماعة من الاعلام وحضر مجلس أبي حنيفة سنين ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، وصنف
الكتب الكثيرة النادرة ونشر علم أبي حنيفة ، وكان الرشيد قد ولاه قضاء الرقة ثم عزله عنها ، وقدم
بغداد ولم يزل محمد