للحاضر والبادى عظيم شأنه ورفيع شأوه ، ووقف قومه على منيع مقامه وبازخ أعلامه حتى اذا قرب من الاربعين طفق يطلب الخلوة لنفسه ويعتزل عن أبناء جنسه وصار يترهّب تلك الرهبانية الصحيحة التي لا تحجف بواجب شيء من النفس او البدن ، بل تعطى كلاً من تكميل قسطه وتوفى بحسبه شرطه ، وتستوفى حظوظها منه على مدرجة الصواب وأحسن الانتخاب والاستقامة على حد المركز والموسط والاعتدال بين الاطراف من غير ميل ولا انحراف ، وهذه اول ترشيحة الوحي وترشحة للنبوّة ، وتأهل للبعثة وتسديد من الغيب فجعل ينقطع ويتجرّد ويروح الى معلّمه الروح المجرد (١) ويقيم خارج البلد في شعب ( حراء ) يتحرّى مهب نفحات العناية من بين وارداته القلبية ، ويترقب خلع التشريف والكرامة من متحف الربوبية ويطامع اسرار الملك والملكوت مما رقمه قلم الازل على صحيفة نفسه القدسية ، ويتأهب للهبة بما تفرسه حدسه وحدسته نفسه ، وتقدمت له دلائله ، وهتفت فيه بشائره ، من تشريفه بتلك المنزلة الشريفة ، وتعينه لهاتيك الوظيفة ، بعثه بتلك المصلحة العامة ، والمسألة الهامة البالغة أقصى مبالغ الصعوبة والحاجة والكلفة والمشقة ودفعه الى تقحم ذلك المأزق المتلاحم والتهجم على
__________________
(١) قال اميرالمؤمنين سلام الله عليه في خطبته المباركة المعروفة بالقاصعة :
« ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآله من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولايراه غيرى. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلىاللهعليهوآله وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي و الرسالة ، واشمّ ريح النبوة ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه الخ » ومما روى في حاله مع الملك وعصمته به ما روى عن الامام الباقر سلام الله عليه انه قال : وكل الله بمحمد صلىاللهعليهوآله ملكا عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات ومكارم الاخلاق ويسده عن الشر ومساوى الاخلاق وهو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمّد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أن ذلك من الحجر والارض فيتأمل فلا يرى شيئاً. انظر الى شرح النهج لابن ميثم ره. ج ٤ ، ص ٣١٤.