شيعتناهم العارفون بالله ، العاملون بأمر الله ، أهل الفضائل ، الناطقون بالصواب مأكولهم القوت ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، بخعوا لله تعالى بطاعته (١) وخضعوا له بعبادته ، فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم ، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء ، رضوا عن الله تعالى بالقضاء ، فلولا الاجال التي كتب الله تعالى لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين ، شوقا إلى لقاءالله والثواب ، وخوفا من أليم العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر مادونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها متكئون.
وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذبون ، صبروا أياما قليلة ، فأعقبتهم راحة طويلة ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها ، أما الليل فصافون أقدامهم تالون لاجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا ، يعظون أنفسهم بأمثاله ، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة ، وتارة يفترشون جباههم وأنفسهم وركبهم وأطراف أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم ، يمجدون جبارا عظيما ويجأرون إليه في فكاك أعناقهم ، هذا ليلهم ، وأما نهارهم فحلماء علماء بررة أتقياء ، براهم خوف باريهم (٢) فهم كالقداح تحسبهم مرضى وقد خولطوا وما هم بذلك ، بل خامرهم من عظمة ربهم ، وشدة سلطانه ماطاشت له قلوبهم ، وذهلت منه عقولهم ، فإذا اشتاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالاعمال الزكية ، لا يرضون له بالقليل ، ولا يستكثرون له الجزيل فهم لانفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون.
يرى لاحدهم قوة في دين ، وحزما في لين (٣) وإيمانا في يقين ، وحرصا على
____________________
(١) بخع نفسه ـ بتقديم الباء على الخاء المعجمة المفتوحة ـ : أنهكها وكاد يهلكها من غم أو غضب. وبخع ـ بكسر الخاء ـ بالحق : أقر وأذعن.
(٢) أى نحتهم خوف ربهم ، فانما يخشى الله من عباده العلماء. والقداح جمع القدح بالكسر فيهما : السهم.
(٣) الحزم في اللين أن يكون لبنه حزما وفى موضعه ، لا عن مهانة وذلة.