والمعدة والكبد ليستا كذلك ، لأنهما وان كانا إنما يستعملانها في إصلاح غذائه القريبة جدا ، وان منفعة فعلها قد يتجاوزهما ، ويشمل جميع أعضاء البدن كما ذكرنا بدء.
وقد اختلف الاوائل في طبائع هذه القوى. فقال أكثر الحكماء أن القوة الجاذبة حارة يابسة وقاسوا ذلك بالنار. وقالوا أن من شأن النار جذب ما يتيح لها من شيء والشمس التي تكسف رطوبات العالم بحرارتها ويبسها وترفعها وترقّيها صعدا. والقوة الماسكة باردة يابسة ، وذلك أن الامساك والحصر عندهم لا يكون إلا بالبرد واليبس. والقوة الهاضمة حارة رطبة باجماع من الفلاسفة ، وذلك لأنهم قالوا : إن الهضم إنما يكون بإحالة الشيء الى ما هو ألطف منه وأرطب. ومتى ما لم تتم الاستحالة على قدر الحاجة اليها ، فسد الاستمراء وكان الذي يوافق هذه القوة عندهم المزاج الحار الرطب. أما حاجتها الى الحرارة فمن قبل أن هذه الكيفية أقوى سائر الكيفيات كلها ، في العقل والتقدير. وأما حاجتها الى الرطوبة فمن قبل أن من كان رطبا كان أسهل (يزيدا) عند انحلال الغذاء الى البخار وغوصه وليس ذلك من شأن اليابس. وهو أيضا أسرع التحاما ، وأسهل تشبيها لما يتصل به. أعني الغذاء بالشيء الذي به يتصل. وذلك أنه من طبعه وجنسه ، وجوهره. إذ كان كل غذاء فهو رطب. ولأن الاجسام إذا كانت سهلة التقسيم ، لقي بعضها بعضا بأجزاء صغار سريع. وعمل بعضها في بعض سريع وليس شيء أسرع ولا أسهل تقسيما من الرطب. ويشدّ هذه القوى والمتمم أفعالها ، والمحكية لقلب غير الغذاء الى غير الأعضاء : هي القوة الهاضمة. لأن القوة الجاذبة إنما تورد الغذاء الى المغتذى. والماسكة انما تحبسه مدة ما حتى ينهضم. والدافعة إنما تدفع فضل الغذاء ورديئه التي استغنت عنه الهاضمة ، فيبقيه لأنه لا حاجة بها اليه. والقوة الدافعة باردة رطبة وذلك أن الرطوبة (ترلو) وتسلس الجروح والبرودة تجمع ، وتعصر ، وتزرق بالفضول الى خارج. وقد زعم قوم من الأطباء أن القوة الدافعة باردة يابسة ، وهذا خطأ في النظر والقياس. وذلك أنهم جعلوا قوة الامساك والدفع لمزاج واحد. وهما فعلان متضادان. وهذا واضح الفساد.