والأروع والأشرف ـ هيمنةً في الساحة ، ملوَّنة بكلِّ ألوان الدهاء. مُنذ أكثر مِن ثلاثين سنة وهو يتعلَّم كيف يكون الوصول إلى كرسيِّ الحُكم ، وامتلاكه وتحويله مِن الحَقِّ العامِّ الموزَّع على الأُمّة جمعاء ، احتكاراً مصبوباً في خزائنه : مَجداً ، وجاهاً ، وقوَّةً ، ومُنعةً ، وقصوراً ، ومرقصاً لأطماع شهواته وأشكال نَزواته. أمَّا أنْ يقضي على مُزاحميه على الكرسي ، فقد تعلَّم كيف يسقيهم السَّمَّ بنَكهة العسل ، وتعلَّم كيف يستميل إليه رؤوس القوَّاد والجند والمُتزعِّمين مِن أفواج القبائل ، بلعقات مُتفاوتة الحَجم والطَعم ، كان يجعلها رشوة مَطليَّة ببريق الكرم.
ما نقصت أبداً موائد مُعاوية ، ولا انقطعت في كَفِّه شعرة مِن دهائه المُحنَّك بالفن ، حتَّى الشعرة في كَفِّه كان يموِّه عليها بأنَّها أمتن مِن حَبل القُنَّب ، وبهذه الشعرة المُتكاذبة ـ ضمناً ـ على الذات ، وجهراً على الناس في ثوب الخديعة ، تمكَّن مِن أنْ يشغل كرسيَّ الخلافة ويعتليه ـ أنوشروانيا ـ على حساب أهل البيت وسَحقهم سَحقاً استئصاليَّاً يغيبهم عن الإرث ، ويُحرِّره منهم ليبقى صافياً له في مظهر المُلك ، وهل يكون أهل البيت أكثر مِن ثلاثة؟ وهل يكون هو ـ مُعاوية ـ أقلَّ مِن حَبيكة تعبٍ في حبكها خَطٌّ فكريٌّ ، سياسيٌّ مُميَّز بعقل ، وأعصاب ، وإرادة؟ لقد مَرَّت السنون الطويلة على العمل الهادف والدؤوب والصامت ، وها هو الآن ـ مُعاوية ـ الدليل الشاهد على النجاح الباهر ، الذي أوصلته شعرة المُرونة إلى حقيقة المُلك ... وها هو رأس البيت في زعمه المُتداهي والمُتباهي ، يغيب ملفوفاً بفشله. أمَّا الثاني الذي لن يكون اسمه أوسع مِن الحسن ، فستتمُّ مُحاورته بكلِّ رِفقٍ ولينٍ ، إلى أنْ تأتي الساعة الزاحفة بثوانيها ، فيتمُّ اللدغ الليِّن المَرن. أمّا الثالث فسيبقى موجوداً في يائه الصُغرى ، ولن تبخل الأيَّام عليه برغيف مِن سويق!!!
إنْ يكُن مُعاوية قد ظنَّ أنَّ الأحابيل التي حاكها ـ كلَّها ـ بحَقِّ أهل البيت ، هي نِتاج عقله وفنِّه ودهائه ، وأنَّ نجاحها كان مُرتهنا بإخفائها ، والتلاعُب بها في دغشات الليل ، إلاَّ أنَّ أهل البيت لم تنطلِ عليهم مُخبآت النفوس وما يجيش في النوايا ، ولقد كان عليٌّ أرسخ المؤمنين بأنَّ العقل المتين هو ابن الخلايا المتينة في