الإنسان ، وهذه كلُّها لا يمتنها إلاَّ العفَّة ، والصدق ، والسليقة ، النظيفة الروح ، وهذه كلُّها ـ أيضاً ـ كان يفتقر إلى كلِّ مزاياها الطبيعيَّة الخَطُّ الثاني مِن بني حرب ، الذين لا يزالون كما كانوا مُنذ الأمس ، يُناصبون بني هاشم عداءً خالياً مِن أركان العقل التي هي ـ في نظر عليٍّ ـ صدق ، وعفَّة ، وحُبٌّ ، وجمال.
لا ، لم تَخْفَ هذه المُخبآت على عليٍّ ، في الليلة ذاتها التي تخبَّأ بها ابن الخطاب في سقيفة بني ساعدة ، وما طلع الصباح إلاَّ وأبو بكر على كرسيِّ الخلافة ، إمَّا أنْ يصمت عليٌّ ويتغلَّف بالصبر ، فذلك كان عقله في تحمُّل الضيم ، ومُعالجة الخطأ في تدبير شؤون المُجتمع الموجَّه حديثاً إلى الوعي والإدراك ، وإمَّا أنْ يهدر قوى هذا المُجتمع في مُشاحنات جانبيَّة ، تُقوِّي الرجوع فيه إلى قبليَّات ذميمة ، تُفسد عليه غرضه الجديد مِن رسالة أنهكها التعب في لمِّه وردِّه إلى دائرة الصواب ، فإنَّ ذلك ما جعله يتحلَّى بالصبر والسكوت ، على أمل أنْ تتَّسع عين المُجتمع في تفتيشها عنه لتجده دائماً ، في الحظيرة التي سهر على تسييجها ـ بالحَقِّ والصواب ـ نبيُّها العظيم ، بعد أنْ تركها في العُهدة التي يُجرِّده ـ الآن ـ منها قبليٌّ عتيق ما تخلَّى بعد عن نظام المَشيخة.
أمَّا أنْ يتمادى هؤلاء بتبييت السوء والتلاعُب به ، بكلِّ ظِفْرٍ ونابٍ ، فإنَّ أهل البيت جميعهم كانوا يكشفونه بالتدريج ، ويُدركون كُنهه وثقله خطراً عليهم ، وعلى الأُمَّة سواء بسواء في مُحاولتهم توسيع عين المُجتمع ، حتَّى لا تضيع عن المُقابلة بين خَطِّين : خطٌّ يرجع إلى قَبليَّة جاهليَّة ، فيها كلُّ التمويه على الحقيقة ، وخطٌّ صحَّ انتماؤه إلى الحقِّ الذي هو الآن رسالة ، توحِّد المُجتمع مِن تَيهه وانعزاله ، وتسلُّمه إلى العُهدة التي رتَّبت له التنظيم الصحيح بقوَّة الفِكر ، والروح ، والصدق ، والعزم.
أقول : مُنذ الساعة الأُولى التي عادت ، فحبلت بنواياها العتيقة سقيفة بني ساعدة ، تعيَّنت على عليٍّ معركة توسَّع ميدانها ومداها في تجاوزها العصر إلى كلِّ عصر آخر ، دون أنْ تخفَّ شكيمتها ، أو تٌضمر معانيها ، أو يُستغنى عن مضامينها في إلحاحها على كلِّ تحقيق ، إنَّها معركة قوامها إرساء المُجتمع الإنساني ـ عِبر نظرة