أعود فأقول : لو أنَّ الرسالة في المُجتمع فعلت فعلها المُقدَّر لها حصوله في المُجتمع ، لما كانت الحَجَّة تلك بحاجة إلى إعلان وصيَّة ، ولما كانت لتُنعت بالوداع ، بلْ بالوَصلة الدائمة الحضور في دائرتها العظيمة ، التي تجلَّت هي فيها ، كأنَّها الأعجاز في رفع المُجتمع إلى وحدةٍ راح يتَّضح رويداً رويداً على الأرض جلالها في التحقيق.
لا ، لم تكن القضيَّة الكبيرة التي اعتنقتها الجزيرة بين يدي محمدها العظيم ، بحاجة إلى أيَّة وصيَّة ملفوظة بكلمات ، لقد كان لكلِّ خُطوة خطاها الرسول على الأرض حَفر مُعيَّن ، له سداد ، وله رشاد ، ولقد كان لكلِّ إشارة زفَّها إليهم بإصبع كفِّه ، أو بلفتة عينه ، أو ببسمةٍ ماجت بها شفتاه ، دلائل غنيَّة العُمق ، بعيدة الغور ، ولكنَّه لم يَخطُ خُطوة واحدة الاَّ ومعه الرسالة ، ولم يتفوَّه بكلمة واحدة ليست حروفها مِن حروف الرسالة ، إنَّها وحدها كانت الوصيَّة ، وإنَّها وحدها التي بنت وجمعت ، فهي القضيَّة ، وإنَّها منه ، وإنَّه لم يغار أبداً إلاَّ عليها ، لأنَّها القضيَّة ، ولن يُقرِّب اليه أحداً مِن الناس ، إلاَّ الذي يراه متين المنكبين لحمل الرسالة التي هي كلُّ القضيَّة.
أيكون كلُّ هذا المخطوط البارز في حقيقة مُجتمع الجزيرة صعب الفهم ، وصعب اللمح ، وصعب السمع حتَّى نطلب مِن الغائب الذي التحق بسُّحب الغيب ، أنْ يعود ويوضِّح حروف الوصيَّة ، لنرى اليوم مَن هو المدلول إليه ليتسلَّم زمام الرسالة؟ هل هو عليُّ بن أبي طالب ، أم أنَّه عمر بن الخطاب ملفوفاً بأبي بكر الصدِّيق ، مَفروزاً إلى عثمان بن عفَّان؟
ليت حَجَّة الوداع قد تكرَّرت مَرَّتين ؛ حتَّى يقتنع ابن الخطاب بأنَّ الوصيّة بتعهُّد الرسالة ـ القضيَّة ـ هي لعليٍّ ، لا بصفته قريباً وابن عَمٍّ ، ولو بوجود العبّاس وهو عمٌّ أولى ، ولا بصفته طالبيَّاً مُنافساً لسفياني ؛ بلْ لانَّ عزم الروح كان جليلا فوق منكبيه ، ولأنَّ الذي سَحب الجزيرة مِن أمسها البائس هو الذي حضَّر لها غَداً مُشرقاً ، غنيَّاً بالوِئام النظيف والرأي الحصيف.