ثم قاموا للصّلاة وتأخّرت ، فأخذت عود الجارية وشددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما وعدت إلى موضعي ، فصلّيت وعادوا ، فأخذ ذلك الرجل في عربدته عليّ ، وأنا صامت ، ثم أخذت الجارية العود وجسته فأنكرت حاله ، فقالت : من مسّ عودي؟ فقالوا : ما مسّه أحد فقالت : بلى ، والله قد مسه حاذق متقدّم وشدّ طبقته وأصلحه إصلاح متمكن في صناعته ، فقلت لها : أنا أصلحته قالت : فبالله عليك خذه واضرب به ، فأخذته منها فضربت مبدأ طريق عجيب صعب (١) ، فيه نقرات محركة فما بقي أحد منهم إلّا وثب فجلس بين يدي ، وقالوا : بالله يا سيدنا أتغنّي؟ قلت : نعم ، وأعرّفكم نفسي أيضا ، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي ، وو الله إني لآتيه على الخليفة وأنتم تشتموني منذ اليوم ، لأنني تملّحت معكم بسبب هذه الجارية ، وو الله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم ، أو تخرجوا هذا المعربد المقيت الغثّ ، ونهضت لأخرج فعلقوا بي فلم أعرج ، ولحقتني الجارية فعلقت بي فلنت وقلت : ما أجلس إلّا أن تخرجوا هذا المعربد البغيض ، فقال له صاحبه : من هذا وشبهه حذرت عليك ، فأخذ يعتذر ، فقلت : اجلس ولكن والله لا أنطق بحرف وهو حاضر ، فأخذوا بيده فأخرجوه ، فتغنّيت الأصوات التي غنّتها الجارية من صنعتي ، فطرب صاحب البيت طربا شديدا وقال : هل لك في أمر أعرضه عليك؟ قلت : ما هو؟ قال : تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليه من الحلية (٢) ، وللجارية من كسوة؟ قلت : أفعل ، فأقمت عنده ثلاثين يوما ، لا يعرف أحدا أين أنا ، والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا ، فلما كان بعد ثلاثين يوما سلّم إليّ الجارية والحمار والخادم فجئت بذلك إلى منزلي ، وهم في أقبح صورة لفقدي ، وركبت إلى المأمون من وقتي فلما رآني قال : إسحاق ويحك ، أين تكون؟ فأخبرته بخبري ، فقال : عليّ بالرجل الساعة ، فدللتهم على بيته فأحضر ، فسأله المأمون عن القصة فأخبره ، فقال أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها ، وأمر له بمائة ألف درهم ، وقال له : لا تعاشر ذلك المعربد النّذل ، فقال : معاذ الله يا أمير المؤمنين ، وأمر لي بخمسين ألف درهم ، وقال : أحضرني الجارية فأحضرته إياها فغنّته فقال لي : قد جعلت عليها نوبة في كل يوم ثلثاء تغنّيني من وراء الستارة مع الجواري ، وأمر لها
__________________
(١) الأغاني : وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا.
(٢) الأغاني : من حلي.