وكلّمني بعضهم ، فقال : أنا أوجدك في الآية ترتيبا ، وهو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) قال : والفاء للترتيب بلا خلاف ، وحكى ذلك عن بعض متأخريهم ـ وأحسبه ابن القطان رحمه الله ـ فقلت له : قد ذهب عليك ما في الحال ، وذلك أن معنى قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي : إذا عزمتم على الصلاة ، وأردتموها ، وليس الغرض ـ والله أعلم ـ في (قُمْتُمْ) النهوض والانتصاب ، لأنهم قد أجمعوا أنه لو غسل أعضاءه قبل الصلاة قائما أو قاعدا لكان قد أدّى فرض هذه الآية ، فالفاء إذن إنما رتبت الغسل والمسح عقيب الإرادة والعزم ، ولم تجعل للغسل مزية في التقدم على المسح ، لأن المسح معطوف على الغسل بالواو في قوله : (وَامْسَحُوا) فجرى هذا مجرى قولك : «إذا قمت فاضرب زيدا واشتم بكرا» فلو بدأ بالشتم قبل الضرب كان جائزا ، فالفاء لم ترتب الغسل قبل المسح ، ولا الضرب قبل الشتم ، ولم ترتب أيضا نفس المغسول به ، لأن المغسول معطوف بعضه على بعض بحرف لا يوجب الترتيب ، وهو الواو ، وهذا واضح ، ففهمه ، وعرف الحقيقة فيه.
ونظير «قمتم» في هذا الموضع قوله عز اسمه : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (النساء : ٣٤) (١) وليس يراد هنا ـ والله أعلم ـ القيام الذي هو المثول والتنصّب وضدّ القعود ، وإنما هو من قولهم : «قمت بأمرك» و «عليّ القيام بهذا الشأن» فكأنه ـ والله أعلم ـ الرجال متكلّفون لأمور النساء معنيّون بشؤونهنّ.
فكذلك قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي : إذا هممتم بالصلاة ، وتوجّهتم إليها بالعناية ، وكنتم غير متطهرين ، فافعلوا كذا وكذا ، لا بدّ من هذا الشرط ، لأن من كان على طهر وأراد الصلاة لم يلزمه غسل شيء من أعضائه لا مرتّبا ولا مخيّرا فيه ، فيصير هذا كقوله عز وجل (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (المائدة : ٦) وهذا ، أعني قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فافعلوا كذا ، وهو يريد : إذا قمتم ولستم على طهارة ، فحذف ذلك للدلالة عليه أحد الاختصارات التي في القرآن ، وهو كثير.
__________________
(١) قوامون : جمع قوام صيغة مبالغة على وزن فعال ، والقوامة هنا المقصود بها ما جاء بالمتن وهو تكليف الرجال بأمور النساء والاعتناء بهن. اللسان (١٢ / ٤٩٩) مادة / قوم.