وجلاها للطالب ، بعد ما أصلح من خلقها ، وزان من معارفها ، حتى ظهرت محببة للقلوب ، رشيقة في مؤانسة البصائر ، تهش للفهم ، وتبش للطف الذوق ، وتسابق الفكر إلى مواطن العلم ، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام ، فما أعجز قلمي عن الشكر لك ، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
٣ ـ وكتب إلى أحد أصحابه وهو في السجن كتابا يفيض بالألم ، استهله بقول الشاعر :
تقلدتني الليالي وهي مدبرة |
|
كأنني صارم في كف منهزم |
ثم قال بعد قليل :
رأيت نفس اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه ، في ليلة داجية غطى فيها وجه السماء بغمام سوء ، فتكاثف ركاما ركاما ، لا أرى إنسانا ، ولا أسمع ناطقا ، ولا أتوهم مجيبا ، أسمع ذئابا تعوي ، وسباعا تزأر ، وكلابا تنبح ، كلها يطلب فريسة واحدة ، هي ذات الكاتب ، ذهب ذوو السلطان في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشبه ، ومقذوفات من التهم ، وسواقط من اللمم ، ليموهوها بمياه السفسطة ، ويغشّوها بأغشية من معادن القوة ، ليبرزوها في معرض السطوة ، ويغشوا بها أعين الناظرين.
وقال في آخره :
آه ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف ، ما أشد خطبه للولاء ، وما أغيره على حقوق الأولياء ، وما أثبته على الوفاء ، هذا القلب الذي يؤلمونه بأكاذيبهم ، هو الذي سر قلوبهم بالترقية ، وملأها فرحا بالتقدم.