إني أدعو إلى التوفيق بين الفصحى والعامية ، ومذهبي في مجمع اللغة العربية إمداد الفصحى بما تزخر به العامية من ألفاظ الحضارة وتراكيبها التي دخلت في الحياة العامة حتى تضيق مسافة الخلف بين اللهجتين وينتهي بهما الأمر بفضل الصحافة والإذاعة والتعليم إلى لغة واحدة عامة فيها من الفصحى السلامة والجزالة والبلاغة والسمو ، وفيها من العامية الدقة والطبيعية والحيوية والتجدد والوضوح. أما أن تكون لغتنا كلغة الهمج لا تقوم على قواعد ، ولا تجري على أنظمة ، ولا تشعرنا بجمال ، ولا تحفزنا لكمال ، ولا تربطنا بماض ، ولا تصلنا بمستقبل ، ولا تجمعنا في وحدة ، فذلك مذهب لا يقول به رجل وهو جاد ، ودعوة لا يستجيب لها إنسان وهو عاقل.
فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية لأن أساليبها غالبة على السمع ، وقواعدها جارية على الطبع ، فلا يحتاج تحصيلها إلى كتاب ومعلم ومدرسة ، وإنما يحتاج إلى بواب وخادم وشارع وتغلب الأساليب العامية معناه كما قلت فصل الأدب عن الدين وقطع الحاضر عن الماضي وتوهين الصلات بين العرب. وفي يقيني أن أمر العربية لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله : فقه أسرارها كل الفقه ، وفهم قواعدها أدق الفهم ، وحفظ أدبها أشد الحفظ ، وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم ، والعلم والخبرة في وضع المنهج ، والمنطق والذوق في تأليف الكتاب ، والكتاب الأزهري الذي تخرجنا عليه وما زلنا نرجع إليه كنز من المعارف لا يعوزه إلا سهولة مأخوذة وحسن تنسيقه وجمال عرضه ، فالفرق بينه وبين الكتاب الحديث في العرض كالفرق بين حانوت من حوانيت العطارة في الغورية ، وبيت من بيوت التجارة في قصر النيل ، قد يكون في الحانوت القديم ما ليس في المتجر الحديث من السلع التواجر والطرف النوادر ؛ ولكن اختفاءها في ركن غير ظاهر ، وعرضها في معرض غير لائق ، يضعف الإقبال عليها ويقلل الاستفادة منها ، فإذا عرضت الكنوز