تمام بن محمّد ، نا أبو علي محمّد بن هارون الأنصاري ، حدّثني عصمة بن أبي عصمة البخاري بدمشق ، أنا أحمد بن عمّار بن خالد التمار ، نا عصمة العبّاداني قال :
كنت أجول في بعض الفلوات إذ أبصرت ديرا ، وإذا في الدير صومعة ، وفي الصومعة راهب ، فناديته : يا راهب ، فأشرف عليّ ، فقلت له : من أين تأتيك الميرة؟ قال : من مسيرة شهر ، قلت له : حدثني بأعجب ما رأيت في هذا الموضع ، فقال : نعم ، بينا أنا ذات يوم أدير نظري في هذه البرية القفراء وأتفكر في عظمة الله وقدرته ، إذ رأيت طائرا أبيض مثل النعامة كبيرا قد وقع على تلك الصخرة ، وأومأ بيده إلى صخرة بيضاء ، فتقايا رأسا ثمّ رجلا ، ثم ساقا وإذا هو كلّما تقايا عضوا من تلك الأعضاء التأمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق الخاطف ، بقدرة الله عزوجل ، حتى استوى رجلا جالسا بقدرة الله تعالى ، فإذا همّ بالنهوض نقره الطائر نقرة قطعه أعضاء ثمّ يرجع فيبتلعه.
فلم يزل على ذلك أياما ، فكثر والله تعجبي منه ، وازددت يقينا لعظمة الله عزوجل ، وعلمت أنّ لهذه الأجساد حياة بعد الموت ، فلم يزل على ذلك أياما ، فالتفت إليه يوما ، فقلت : يا أيها الطائر سألتك بحقّ الله الذي خلقك [وبرأك](١) إلّا أمسكت عنه حتى أسائله ، فيخبرني بقصته ، فأجابني الطائر بصوت عربي : الخلق (٢) لربي الملك وله البقاء ، الذي يفني كل شيء ويبقى ، أنا ملك من ملائكة الله عزوجل موكل بهذا الجسد ، لما أجرم وجرى عليه من قضاء الله ، وأمرني الله أن آتي هذا المكان لتسأله وتخاطبه ليخبرك بما كان منه ، فسله ، فالتفت إليه ، فقلت : يا هذا الرجل المسيء إلى نفسه ، ما قصتك؟ ومن أنت؟ قال : أنا عبد الرّحمن بن ملحم قاتل علي ، وإنّي لما قتلته وصارت روحي بين يدي الله عزوجل ، ناولني صحيفة مكتوبة فيها ما عملته من الخير والشر منذ يوم ولدتني أمي إلى أن قتلت عليّ بن أبي طالب ، وأمر الله هذا الملك بعذابي إلى يوم القيامة ، فهو يفعل بي ما قد تراه ، ثم سكت ، فنقره ذلك الطائر نقرة نثر أعضاءه بها ، ثم جعل يبتلعه عضوا عضوا ، فلما فرغ منه قال : يا آدمي إنّي ماض عنك ، وخير وصيتي لك : أن تتقي الله في سرك وعلانيتك ، فهذا جزاء من قتل نفسا زكية قد كتب لها السعادة من الله عزوجل ، وكتب على قاتلها النار والعذاب من الله عزوجل ، وقد أتاني رسول الله أن أمضي بهذا الجسد جزيرة في البحر الأسود الذي يخرج
__________________
(١) الزيادة عن م.
(٢) اللفظة مضطربة بالأصل وم وتقرأ فيهما : «طلق» والمثبت عن المختصر.