فأقامه من دكانه وجلس معه يبيع الحلاوة ودار حوله أمراؤه يشترون منه الحلاوة وأخذ بيده الميزان وصار يزن لهم إلى أن جبرت الحلاوة ، وكانت له حركات من هذه الخرافات ، منها ما يضحك ، ومنا ما يبكى إلى أن سقط من أعين العسكر وسطوا عليه كما سطوا بالجسام الأبتر وسلخوه من الملك كما سلخ تلك الضعيفة بالخنجر ومزقوه كل ممزق : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ)(١).
فمن غروره : أنه خرج متحقبا منفردا عن عبيده وخدمه متباعدا من حوله وحشمه ، فتوجه يمشى وحده إلى بر الجزيرة ، فأكمن له عشرة أنفس من مماليكبي أبيه فى خبيئة على ممره ، فلما وصل إليهم ، وكان وحده منفردا خرجوا عليه من الخيمة وسلموا بلجام فرسه وضربوه بالسيف إلى أن قطعوه ، وجاءوا به مقتولا إلى القاهرة ودفنوه فى تربة أبيه سنة ٩٠٤ ه ، ثم ولوا بعده خاله الملك الظاهر أبو النصر قانصوة ، وهو خال الملك الناصر محمد بن قايتباى ، وكان ساد جاميا لا يعرف إلا بلسان الجركسى قريب العهد ببلده لأن السلطان قايتباى جلبه من بلاده وهو كبير وخطه الشيب ، وصار يرقبه بواسطة زوجته «حوندام الناصر» لأنه أخوها ، وهى التى أقامته مقام ولدها الناصر وبذلت له الأموال والخزائن ، وأرادت تقويه وإقامته مقام وإصلاحه (ولن يصلح العطار ما أفسده الدهر) ، فما استكمله الجندى لحمل أعباء المملكة ، وما أهلوه السلطنة ، وكيف له بها؟ وأنى له؟! فخلعوه بعد أن ساسهم سنة وسبعة أشهر ، وأخرجوه من الملك فى أواخر سنة ٩٠٥ ه ، وولى مكانه الملك العادل جان بلاط وتلقب بالملك الأشرف جان بلاط فى أوائل سنة ست وتسعمائه ، ولا تهنأ بالسلطنة ، ولا وافقه أحد عليها ، وخلع بعد ستة أشهر ، وولى مكانه الملك العادل طومان باى ، فما استكمل يوما واحدا ، بل هجم عليه العسكر وقتلوه فما قدم أحد من الأمراء.
وكانت العساكر متوفرة ، وكلهم يشير بعضهم على بعض فى الجلوس على تخت الملك فاتفقوا على أن يولوا قانصوه الغورى لأنهم رأوه لين العريكة
__________________
(١) الآية رقم ٣٣ من سورة القلم ، مدنية.