من أهل وولد ومتاع وأثر ، بعد أن رضتم جموح (١) الأيام ، وتوقّلتم قلل (٢) العزّ ، وقدتم الدنيا بحذافيرها ، (٣) وأخذتم بآفاق السماء على أهلها ؛ وهنيئا فقد نالت نفسكم التّواقة أبعد أمانيها ، ثم تاقت إلى ما عند الله ؛ وأشهد لما (٤) ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب (٥) والإقبال ، ونهى (٦) الآمال ، إلا جذبا وعناية من الله ، وحبّا ؛ وإذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه.
واتّصل بي ما كان من تحفّي (٧) المثابة (٨) المولوية بكم ، واهتزاز الدولة لقدومكم ؛ ومثل تلك الخلافة ، أيّدها الله ، من يثابر على المفاخر ، ويستأثر بالأخاير. وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ ، وأنسكم باجتلاب الآمال ، حتى يحسن المتاع بكم ، ويتجمّل السرير الملوكي بمكانكم ، فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال ، ونبذ الحظوظ ، وهوّن المفارق العزيز ، يسومكم الفرار إلى الله ، حتى يأخذ بيدكم إلي
__________________
(١) راض الدابة : ذللها. وفرس جموح : عادته أن يركب رأسه فلا يثنيه راكبه. يريد ذللتم الأيام التي لا تسير وفق رغبات الناس ، وجعلتموها تسير حسب رغبتكم.
(٢) توقل في الجبل : صعد فيه ؛ وقلة كل شيء : أعلاه.
(٣) بحذافيرها : بأسرها.
(٤) أدخل ابن خلدون لام الابتداء على «ما» النافية ؛ وهو استعمال شاذ. وقد ورد هذا الاستعمال في قول الشاعر.
لما أغفلت شكرك فاصطنعني |
|
فكيف ومن عطائك جلّ مالي |
وفتوى النحاة في ذلك : أن «ما» النافية ، أشبهت «ما» التي بمعنى الذي ، فجاز أن تدخل عليها لام الابتداء. وانظر شرح الرضى على الكافية ٢ / ٣٥٦ ، والخزانة ٤ / ٣٣١.
(٥) الإصحاب : الانقياد من بعد صعوبة. يعني : أعرضت عن الدنيا عند انقيادها لك وإقبالها عليك.
(٦) جمع نهية ؛ وهي غاية الشيء.
(٧) التحفى ، والاحتفاء : المبالغة في الإكرام.
(٨) المثابة : الموضع يثاب ، أي يرجع إليه مرة بعد بعد أخرى. وفي القرآن : [وإذ جعلنا البيت مثابة للناس].