ولاية الدّروس والخوانق
أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيّون ـ على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب ـ بإنشاء المدارس لتدريس العلم ، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفيّة السّنيّة في مطارحة الأذكار ، ونوافل الصلوات. أخذوا ذلك عمّن قبلهم من الدوال الخلافية ، فيختطّون مبانيها ويقفون الأراضي المغلّة للإنفاق منها على طلبة العلم ، ومتدرّبي الفقراء ، وإن استفضل الريع شيئا عن ذلك ، جعلوه في أعقابهم خوفا على الذّرّية الضّعاف من العيلة. (١) واقتدى بسنّتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرّياسة والثروة ، فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة القاهرة ، وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء والصوفية ، وكان ذلك من محاسن هذه الدولة التركية ، وآثارها الجميلة الخالدة. (٢)
وكنت لأوّل قدومي على القاهرة ، وحصولي في كفالة السّلطان ، شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب ، وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه ، ووقف عليها أراضي من الفيّوم تغلّ القمح ، فسمّيت لذلك القمحيّة ، كما وقف أخرى على الشّافعية هنالك ، وتوفي مدرّسها حينئذ ، فولاني السّلطان تدريسها ، وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ستّ وثمانين ، (٣) كما ذكرت ذلك من قبل ، وحضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكري ، وعناية من السّلطان ومنهم بجانبي ، وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها
__________________
(١) العيلة (بفتح العين) : الفقر والفاقة.
(٢) تحدث ابن خلدون في «المقدمة» (ص ٣٨٠ طبع بيروت) عن الأسباب التي كانت تحدو بأمراء الترك أن يكثروا من بناء المدارس والربط والخوانق في القاهرة ـ بما يحسن الرجوع إليه.
(٣) في «السلوك» (١١٠ ب نسخة الفاتح) سنة ٧٨٦ :
«وفي خامس عشرينه (المحرم) ، درّس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون بالمدرسة القمحية بمصر ، عوضا عن علم الدين البساطي بعد موته ، وحضر معه بها الأمير الطنبغا الجوباني ، والأمير يونس الدوادار ، وقضاة الأربعة والأعيان».