كما نقل إلينا ، وكرّر على من قبلنا وعلينا ـ أن الدنيا ـ وإن غرّ الغرور (١) وأنام على سرر الغفلة السّرور ، فلم ينفع الخطور (٢) على أجداث (٣) الأحباب والمرور جسر يعبر ، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر ، (٤) إنّما هو خبر يخبر ، وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر ، وأن الأعمار أحلام ، وأن الناس نيام ، وربّما رحل الراحل عن الخان ، (٥) وقد جلّله بالأذى والدخان ، أو ترك به طيبا ، وثناء يقوم بعد للآتي خطيبا ، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا ، (٦) والتفقّد للثغور مسواكا ، وضجيع المهاد ، حديث الجهاد ، وأحكامه مناط الاجتهاد ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ)(٧) من حجج الاستشهاد ، وبادرنا رمق (٨) الحصون المضاعة وجنح (٩) التّقية (١٠) دامس ، (١١) وعواريها (١٢) لا تردّ يد لامس ، (١٣) وساكنها بائس ، والأعصم (١٤) في شعفاتها (١٥) من العصمة يائس ، فزيّنّا ببيض الشرفات ثناياها ،
__________________
(١) الغرور (بالفتح) : الشيطان ؛ وفي القرآن : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).
(٢) الخطور : التبختر في المشي.
(٣) جمع جدث : وهو القبر.
(٤) يحبر : ينعم ويسر ويكرم.
(٥) الخان : المكان الذي ينزله الناس في المدن ، والطرق ، وهو الفندق. وانظر المعرّب ص ٢٣٩.
(٦) ملاك الأمر : ما يقوم به ذلك الأمر.
(٧) يشير إلى الآيات (١٠ ـ ١٣) من سورة الصف.
(٨) الرمق : بقية الحياة والروح. وفي الكلام تجوّز.
(٩) جنح الطريق : جانبه ، وجنح القوم : ناحيتهم.
(١٠) التقية : الحفظ.
(١١) ليل دامس : مظلم.
(١٢) جمع عارية ؛ وهي المتجردة من الثياب. والعورات : الخلل في الثغر وغيره ، يتخوف منه في الحروب.
(١٣) يقال للمرأة تزنّ بالفجور : لا ترد يد لامس ؛ أي لا ترد من يريدها عن نفسها.
(١٤) الأعصم : الوعل ، وعصمته : بياض في رجله.
(١٥) الشعفات ، جمع شعفة ؛ وهي رؤس الجبال.