وانتخاب أنجاده ، فصلينا بنفسنا ناره ، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره (١) ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة ، وجلامده الملمومة (٢) وأحجاره ، حتى فرعنا (٣) بحول من لا حول ولا قوة إلا به ـ أبراجه المنيعة وأسواره ، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره ، بعد أن استضفنا إليه حصن السّهلة جاره ؛ ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة وحامية ، وأزوادا نامية ، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال ، وبقر من بطون مسابقة الرجال ، واقتدينا بنبينا ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ في الخندق (٤) لما حمى ذلك المجال ، ووقع الارتجاز المنقول حديثه والارتجال ، (٥) وما كان ليقرّ للإسلام مع تركه القرار ، وقد كتب الجوار ، وتداعى الدّعرة (٦) وتعاوى الشّرار. (٧)
وقد كنّا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدّت بين القاعدتين رندة ومالقة الطّريق ، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق ، ومنعتهما أن يسيغا الرّيق ، فلا سبيل إلى الإلمام ، لطيف المنام ، إلا في الأحلام ، ولا رسالة إلا في أجنحة هدل (٨) الحمام ، فيسّر الله فتحها ، وعجّل منحها ، بعد حرب انبتّت فيها
__________________
(١) الأوار (بالضم) : حرارة النار ، والشمس ، والعطش.
(٢) جلامدة ، جمع جلمد ؛ وهو الصخر. والملمومة : المستديرة الصلبة.
(٣) فرعنا : علونا ، ويجوز أن يكون المعنى «فرعنا : فتحنا» ، من افترع بمعنى افتضّ.
(٤) كانت غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة. وانظر الروض الأنف ٣ / ١٨٧ الطبري ٣ / ٤٣.
(٥) نقل السّهيلي في الروض الأنف عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يرتجز يوم الخندق فيقول :
* بسم الإله وبه بدينا*
* ولو عبدنا غيره شقينا*
* فحبّذا ربا وحب دينا*
وانظر سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٧ ، ٢٢٨. وفي أحكام القرآن لابن العربي المعافري ٢ / ١٩٢ ـ ١٩٥ بحث قيّم في أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال شعرا أو لم يقله.
(٦) رجل داعر (بالمهملة) : يسرق ، ويزني ، ويؤذي الناس ؛ والجمع دعرة.
(٧) تعاوت الشرار : تجمعت للفتنة ؛ وتعاووا عليه : تعاونوا وتساعدوا.
(٨) الهديل : ذكر الحمام. والجمع هدل ، كسرير وسرر.