الجرح ، وهي قضية إجماع ، (١) وانطلقت الألسنة ، وارتفع الصّخب ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فوقفت ، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتّظلّم عند السّلطان ، وجمع القضاة وأهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك ، فخلّصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز ، وتبيّن أمره للسّلطان ، وأمضيت فيها حكم الله إرغاما لهم ، فغدوا على حرد قادرين ، (٢) وعسوا لأولياء السّلطان وعظماء الخاصّة ، يقبّحون لهم إهمال جاههم ، وردّ شفاعتهم مموّهين بأنّ الحامل على ذلك جهل المصطلح ، وينفّقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليّ ، تبعث الحليم ، وتغري الرّشيد ، يستثيرون حفائظهم عليّ ، ويشربونهم البغضاء لي ، والله مجازيهم ومسائلهم.
فكثر الشّغب عليّ من كل جانب ، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدّولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد ، (٣) وصلوا من المغرب في السفين ، (٤) فأصابها قاصف (٥) من الريح فغرقت ، وذهب الموجود والسّكن والمولود ، فعظم المصاب والجزع ، ورجح الزّهد ، واعتزمت على الخروج عن المنصب ، فلم يوافقني عليه النصيح (٦) ممن استشرته ، خشية من نكير السّلطان وسخطه ، فوقفت بين الورد
__________________
(١) انظر تفصيل القول في مسألة استناد القاضي إلى علمه في التعديل والتجريح ، في : «البهجة في شرح التحفة» ٢ / ٤٥ وما بعدها.
(٢) في اللسان : منعوا وهم واجدون.
(٣) في تاريخ ابن قاضي شبهة ، في حوادث سنة ٧٨٦ ، ج ١ لوحة ٤ : «وفيه (رمضان) غرق مركب كبير يقال له «ربع الدنيا» ، حضر من المغرب ، وفيه هدايا جليلة من صاحب المغرب ، وغرقت فيه زوجة القاضي ولي الدين ابن خلدون ، وخمس بنات له ، وما كان معهن من الأموال والكتب ؛ وكان السّلطان قد أرسل رسولا إلى صاحب تونس بسب أولاد الشيخ ولي الدين ابن خلدون. وسلم ولداه :
محمد وعلي ، فقدما القاهرة». على أن انفراد ابن قاضي شهبة التفصيلات ممّا يبعث على التثبت والحذر.
(٤) السفين : جمع سفينة ؛ غير أن ابن خلدون يستعمل السفين ويريد السفينة.
(٥) قصف الريح : اشتد صوته.
(٦) النصيح : الناصح.