إلى تحكيمهم ، فيحكمون بما يلقي الشّيطان على ألسنتهم يترخّصون به للإصلاح ، لا يزعهم الدّين عن التّعرّض لأحكام الله بالجهل ، فقطعت الحبل في أيديهم ، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه ، فلم يغنوا عنه من الله شيئا ، وأصبحت زواياهم مهجورة ، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة ؛ وانطلقوا يراطنون (١) السّفهاء في النّيل من عرضي ، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك ، وقول الزّور ، يبثّونه في الناس ، ويدسّون إلى السّلطان التظلّم منّي فلا يصغي إليهم ، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الأمر ، ومعرض فيه عن الجاهلين ، وماض على سبيل سواء من الصّرامة ، وقوّة الشّكيمة ، وتحرّي المعدلة ، وخلاص الحقوق ، والتّنكّب عن خطّة الباطل متى دعيت إليها ، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها ، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة ، فنكروه عليّ ، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ، ومراعاة الأعيان ، والقضاء للجاه بالصّور الظاهرة ، أو دفع الخصوم إذا تعذّرت ، بناء على أن الحاكم لا يتعيّن عليه الحكم مع وجود غيره ، وهم يعلمون أن قد تمالؤوا عليه.
وليت شعري! ما عذرهم في الصّور الظّاهرة ، إذا علموا خلافها ، والنبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول في ذلك : «من قضيت له من حقّ أخيه شيئا فإنّما أقضي له من النار». (٢)
فأبيت في ذلك كلّه إلا إعطاء العهدة حقّها ، والوفاء لها ولمن قلّدنيها ، فأصبح الجميع عليّ ألبا ، (٣) ولمن ينادي بالتّأفّف منّي عونا ، وفي النّكير عليّ أمّة ، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحقّ ، لاعتمادي على علمي في
__________________
(١) يراطنونهم : يكلمونهم بالعجمية. وربما كان المقصود بالتراطن هنا هو التكنية ، وعدم التصريح بالمراد ، ليظل الحديث غير مفهوم إلا بين المتآمرين.
(٢) ورد نص هذا الحديث في صحيح البخاري بروايات مختلفة ، لا توافق الصيغة التي أورده عليها ابن خلدون. وانظر العيني ١١ / ٤٠٠ ، ٤٠٩ ـ ٤١١ ، ٤١٣ ، ٢٧٠. والموطأ مع شرحه : «تنوير الحوالك» ٢ / ١٠٦ ، ١٠٧. طبع التجارية سنة ١٣٥٦ ه.
(٣) الألب (بالفتح) : التدبير على العدّو من حيث لا يعلم.