عن المضاء في هذا القضاء ، وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتّسعة الفضاء ، أن يلمحوا بعين الارتضاء ، ويتغمّدوا بالصّفح والإغضاء ، والبضاعة بينهم مزجاة ، (١) والاعتراف من اللوم ـ إن شاء الله ـ منجاة ، والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السّلطان في مدارج القبول أعماله ، ويبلّغه في الدارين آماله ، ويجعل للحسنى والمقرّ الأسنى ، منقلبه ومآله ؛ ويديم على السّادة الأمراء نعمته ، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشّمل دولتهم ودولته ، ويمدّ قضاة المسلمين وحكّامهم بالعون والتسديد ، ويمتّعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد ، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد ، بمنّه وكرمه.
وانفضّ ذلك المجلس ، وقد شيّعتني العيون بالتّجلّة والوقار ، وتناجت الّفوس بالأهلية للمناصب ، وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السّلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية ، فعزله ، واستدعاني للولاية في مجلسه ، وبين أمرائه ، فتفاديت من ذلك ، وأبى إلا إمضاءه. وخلع عليّ ، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكيم في المدرسة الصالحية (٢) في رجب ست وثمانين ، فقمت في ذلك المقام المحمود ، ووفّيت عهد الله في إقامة رسوم الحقّ ، وتحرّي المعدلة ، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ، ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدّم ذكره.
وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس ، فمنعهم سلطان تونس من اللّحاق بي اغتباطا بمكاني ، فرغبت من السّلطان أن يشفع عنده في شأنهم ، فأجاب ، وكتب إليه بالشفاعة ، فركبوا البحر من تونس في السفين ، فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية ، فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه ، وما فيه ، وذهب الموجود والمولود ، فعظم الأسف ، واختلط الفكر ، وأعفاني السّلطان من هذه الوظيفة وأراحني ، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريسا وتأليفا.
__________________
(١) بضاعة مزجاة : قليلة.
(٢) نسبة إلى بانيها الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفي الخطط للمقريزي ٤ / ٢٠٩ ـ ٢١١ طبع مصر ، حديث واف عنها.