الرّعايا في ظلّ من أمنه ، وعدل من حكمه ، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه ، ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها ، وشدّ بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها ، من بين مصرّف لعنانها ، متقدّم القدم على أعيانها ، في بساط إيوانها ، وربّ مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها ، ولا يذهب الصّواب عن مكانها ، ومنفّذ أحكام يشرق الحقّ في بيانها ، ويضوع العدل من أردانها (١) ونجيّ خلوة (٢) في المهم الأعظم من شأنها ، وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرّار ، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسّعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.
ولمّا سبحت في اللّجّ الأزرق ، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق ، حيث نهر النهار ينصبّ من صفحه المشرق ، وشجرة الملك التي اعتزّ بها الإسلام تهتزّ في دوحه المعرق ، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق ، وينابيع العلوم والفضائل تمدّ وشلنا (٣) من فراته المغدق ، أولوني عناية وتشريفا ، وغمروني إحسانا ومعروفا ، وأوسعوا بهمتي (٤) إيضاحا ، ونكرتي تعريفا ، ثم أهّلوني للقيام بوظيفة السّادة المالكية بهذا الوقف الشريف ، من حسنات السّلطان صلاح الدين أيّوب ملك الجلاد والجهاد ، وما حي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد ، ومطهّر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النّواقيس والصّلبان فيه بمكان العقود من الأجياد ، وصاحب الأعمال المتقبّلة يسعى نورها بين يديه في يوم التّناد ، (٥) فأقامني السّلطان ـ أيّده الله ـ لتدريس العلم بهذا المكان ، لا تقدما على الأعيان ، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشّان ، وإنّي موقن بالقصور ، بين أهل العصور ، معترف بالعجز
__________________
(١) الأردان : الأكمام. وفي الكلام تجوز.
(٢) النجىّ الشخص الذي تسارّه ، وفلان نجى فلان ، أي يناجيه دون سواه.
(٣) الوشل : الماء القليل.
(٤) البهمة : السواد ، ويريد بها ما يقابل الوضوح.
(٥) يوم التناد : يوم ينادي «أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله».
وانظر لسان العرب.