السّلام. ومررت في طريقي إليه ببيت لحم ، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح ، شيّدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصّخور ، منجّدة مصطفّة ، مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة ، وتواريخ دولهم ، ميسّرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتّراجمة العارفين لأوضاعها ، ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم. ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزّة ، وارتحلت منها ، فوافيت السّلطان بظاهر مصر ، ودخلت في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة.
وكان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدّين بن الخلال ، (١) ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية ، فحرّضه بعض أصحابه على السّعي في المنصب ، وبذل ما تيسّر (٢) من موجوده لبعض بطانة السّلطان الساعين له في ذلك ، فتمّت سعايته في ذلك ، ولبس منتصف المحرّم سنة ثلاث ، ورجعت (٣) أنا للاشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم وتأليفه ، إلى أن كان السّفر لمدافعة تمر عن الشام.
__________________
(١) علي بن يوسف بن عبد الله (أو ابن مكي) الدميري (أو الزبيري) ، المعروف بابن الخلال المالكي.
له ترجمة في «نيل الابتهاج» ص ٢٠٦ ، «عقد الجمان» للعيني (لوحة ١٥٩ ، ١٦٠ من حوادث سنة ٨٠٣).
(٢) في «عقد الجمان» للعيني (سنة ٨٠٣ لوحة ١٥٩ ـ ١٦٠): «... وحصل له (ابن الخلال) حنق من ابن خلدون المغربي في شيء ، فحمله ذلك إلى سعي في القضاء بالرشوة ، فتولى ولم تطل أيامه ، فمات وعليه جملة ديون». وكذلك جاء النص على بذله المال في سبيل الحصول على خطة القضاء ، في «السلوك» للمقريزي (سنة ٨٠٣ ورقة ١٣١ ب نسخة الفاتح) ، وفي تاريخ ابن قاضي شهبة في حوادث سنة ٨٠٣ ، لوحة ١٧٠ ب.
(٣) كانت المحنة التي لحقته في هذه المرة قاسية ، وقد ألم بها ابن قاضي شهبة في تاريخه سنة ٨٠٣ لوحة ١٧٠ ب : «... وسبب عزل المذكور (ابن خلدون) مبالغته في العقوبات ، والمسارعة إليها ، وأهين ، وطلب بالنقباء من عند الحاجب أقباي ماشيا من القاهرة إلى بيت الحاجب عند أكلبش ، وأوقف بين يديه ، ورسم عليه ، وحصل له إخراق ، وأطلق بعض من سجنه ؛ ثم أعطى تدريس المالكية بوقف أم الصالح عوضا عن ابن الخلال».