اعتمله (١) في الحركة والسّفر لخضد شوكتهم ، وتفريق جماعتهم ، وخرج في جمادى حتى انتهى إلى غزّة ، فجاءه الخبر بأنّ نائب الشام تنم ، والأتابك ، والأمراء الذين معه ، خرجوا من الشّام زاحفين للقاء السّلطان ، وقد احتشدوا وأوعبوا ، وانتهوا قريبا من الرّملة ، (٢) فراسلهم السّلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي ، (٣) وناصر الدين الرّمّاح ، أحد المعلّمين لثقافة الرّماح ، يعذر إليهم ، ويحملهم على اجتماع الكلمة ، وترك الفتنة ، وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم ، فاشتطّوا في المطالب ، وصمّموا على ما هم فيه. ووصل الرّسولان بخبرهم ، فركب السّلطان من الغد ، وعبّى عساكره ، وصمّم لمعاجلتهم ، فلقيهم أثناء طريقه ، وهاجمهم فهاجموه ، ثم ولّوا الأدبار منهزمين. وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه ، فما غشيهم الليل إلّا وهم مصفّدون في الحديد ، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلهم. ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق ، فآوى إليها ، واعتقله نائب القلعة. وسار السّلطان إلى دمشق ، فدخلها على التعبئة في يوم أغرّ ، وأقام بها أياما ، وقتل هؤلاء الأمراء المعتقلين ، وكبيرهم الأتابك ذبحا ، وقتل تنم من بينهم خنقا ، ثم ارتحل راجعا إلى مصر.
وكنت استأذنت في التقدّم إلى مصر بين يدي السّلطان لزيارة بيت المقدس ، فأذن لي في ذلك. ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد ، وتبرّكت بزيارته والصّلاة فيه ، وتعفّفت عن الدخول إلى القمامة (٤) لما فيها من الإشادة بتكذيب الرآن ، إذ هو بناء أمم النّصرانية على مكان الصّليب بزعمهم ، فنكرته نفسي ، ونكرت الدّخول إليه. وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب ، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه
__________________
(١) كذا في الأصلين ، ولعل الصواب : «اعتمل».
(٢) الرملةRamleh عرضها الشمالي ٣١ ـ ٥٧ ، وطولها الشرقي ٣٤ ـ ٣٥) : مدينة بفلسطين بينها وبين بيت المقدس نحو ١٨ ميلا ، كانت ذا شأن عظيم في الحروب الصليبية ، وانظر ياقوت ٤ / ٢٨٦.
(٣) صدر الدين محمد بن إبراهيم بن إسحق الشافعي له ترجمة في «المقفى» للمقريزي ١ / ٤٢ (نسخة دار الكتب).
(٤) القمامة (بالضم) : كنيسة كبرى ببيت المقدس ، وانظر تاج العروس (قمم) ، ياقوت ٧ / ١٥٨.