عول المنصور على الإستفادة بكافة الخبرات الموجودة فى مملكته فى انجاز مشروعه الكبير ، فاستدعى إليه من كل بلد من بلدان دولته المهندسين ، وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الأرضين والبنائين والفعلة والصناع من الحدادين والحفارين والنجارين حتى أجتمع لديه على ما قيل ـ نحو مائة ألف من أرباب المهن والصناعات ، وحدد لهم رواتب وأجور معلومة ، وأسند مهمة الإشراف على عملية البناء إلى رجال ممن يثق بهم من ذوى الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت (١).
أشرف المنصور بنفسه على تخطيط مدينته الجديدة ، فأمر بوضع خطوط بالمرماد تمثل رسم المدينة الهندسى الذى أقره ، ودخل من كل باب من أبوابها وعبر فى فصلانها وطاقاتها ورحابها ، وشاهد تخطيطها على الطبيعة ، ولم يكتف بذلك ، بل أمر بوضع حب من القطن على الخطوط المرسومة فى موضع بغداد ، وصب ، النفظ عليها ونظر إلى موضع المدينة ، والنار تشتعل ، فشاهد رسمها ، واطمأن إلى حسنه وقال : «الحمد لله الذى أخرها لى» وأغفل عنها كل من تقدمنى «والله لأبننيها ثم اسكنها أيام حياتى ، ويسكنها ولدى من بعدى ، ثم لتكونن أعمر مدينة فى الأرض» (٢).
افتتح المنصور مشروع تأسيس مدينته فى يوم تاريخى مشهود حضره كبار رجال الدولة (٣) ، ووضع أول لبنة بيده وقال : «بسم الله والحمد لله ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (٤) ثم أمر عماله بأن يبدأوا فى البناء على بركة الله».
على أن بناء بغداد لم يقدر له أن يتم سريعا ، فلما بلغ سور بغداد مقدار
__________________
(١) ابن الأثير : الكامل فى التاريخ حوادث سنة ١٤٥ ه.
(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤١.
(٣) Hitti : Hist.of the Arabs p.٢٤٢.
(٤) le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٩