وتشجيعا له على الاستمرار فى نشاطه فحفظ ذلك لهم ، فلما نكبوا صار إليهم فى حبسهم ، وأقام معهم بقية أيامهم ينشدهم ويسامرهم ، ثم رثاهم فأكثر فى الإشادة بمحاسنهم وجودهم ومآثرهم ، فأذاع منها ما كان مستورا (١).
ولقد رأينا أن الجوارى فى بغداد اشتغلن بالغناء ، وبرز منهن كثيرات مثل عاتكة ، وبلغ من شهرتها وحسن غنائها أن المغنيين فى مجلس الرشيد كانوا يغنون من ألحانها ، وكانت عاتكة تتقن الضرب بالعود ، ومن أحسن المغنيات غناءا وأروجهم ، وكان مخارق مملوكا لعاتكة ، وهى علمته للغناء ، ودربته على استعمال العود ثم باعته ، فانتقل من رجل إلى رجل حتى صار إلى الرشيد وكان حسن الأداء طيب الصوت (٢).
وكانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة ، وبها نشأت وتأدبت وغنت ، وأخذت عن إسحاق الموصلى وعن أبيه وعن المغنية المشهورة بزل ، وبلغ من شهرتها بالغناء أن الخليفة المأمون كان يبعث إليها فتجيئه وتغنيه ، فلما انتقل الخليفة المعتصم إلى سامرا أرسل إليها ، وأنزلها فى دار سميت الدمشقى ، ولكنها كانت ترفض الأبتعاد عن بغداد طويلا ، فكانت تستأذنه فى الذهاب إلى بغداد فيأذن لها ، وتقضى بمدينة السلام بعض الوقت ثم تعود إلى سامرا (٣).
من هذا نرى أن الموسيقى والغناء انتشرا فى بغداد انتشارا واسعا وأقبل كثير من الناس عليهما من طبقات مختلفة حتى أن شعر الشعراء كان إلا النزر اليسير ، داعرا ، ولم يقاس أهل بغداد من البؤس والشقاء إلا إبان الفتنة بين الأمين (٤) والمأمون.
اهتم الخلفاء العباسيون بعقد مجالس الغناء بمظاهر البذخ والروعة فيتخذ
__________________
(١) المصدر السابق ج ٦ ص ٢٤٥.
(٢) المصدر السابق ج ٦ ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢.
(٣) الأصفهانى : الأغانى ج ٧ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.
(٤) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٧.