الترف حيث يكون المال وكل نابغ فى فن أو مذهب يذهب إلى بغداد لعرض شعره أو غنائه ، فقصدها أناس كثيرون من بلدان مختلفة من بلاد الفرس وبلاد الهند والروم وغيرهم. ومن هؤلاء كثيرون تبغوا فى مجالات مختلفة فى اللهو والغناء ، ووجدوا الحياة فى بغداد حقلا خصبا تبرز فيه مواهبهم ، ويقدرون فنهم أحسن تقدير ، فعرضت كل أمة فنها وأنواع حضارتها فكان فى ذلك معرض عام ، وأخذ أهل بغداد من كل لون من ألوان الفنون بحظ وافر ، وأخذت البلاد الأخرى تقتبس الفن من بغداد (١).
على أن ما تحدثنا عنه من شغف أهل بغداد باللهو والمجون لا يمنع من ابراز حقيقة ، أن هذا اللهو لم يكن إلا جانبا من حياة الناس فقط المعقدة حقيقة كثر الغناء والطرب فى بغداد لكن الناس جميعا لم يكن كلهم يحيون هذه الحياة ، ولا يغيب عن أذهاننا أن الأخبار التى أوردها صاحب كتاب الأغانى فى كتابه لا تخلو من مبالغة ظاهرة ليكسب من وراء أخباره مالا أو جاها أو تشويقا لسامعيه ،.
وكان هناك تفاوت كبير بين طبقات الناس ، لذلك انقسم السكان فى بغداد إلى فريقين ، فرقة يتمثل فيها نزعة اللهو ، وفرقة تفضل الزهد ، ويمثل الأولى أبو نواس ، والثانية أبو العتاهية ، ذلك أن قوما يئسوا من الغنى ورأو أن نفوسهم لا تطاوعهم فى القرب من ذوى الجاه ، أو حاولوا ذلك وفشلوا ، فلجأوا إلى القناعة يروضون أنفسهم عليها ، وكثيرون زهدوا تدينا (٢).
على كل حال أدى الإفراط فى اللهو إلى ظهور عناصر مفسدة للإخلاق فى بغداد ، ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس إيذاءا شديدا ، وأظهروا الفسق وقطع الطريق ، وأخذوا النساء والغلمان علانية من الطرق فكانوا يخطفون الطفل من أبيه ولا يردوه إليه إلا إذا أدى لهم كثيرا من المال ، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى ويرهبون أهلها ، ويأخذون ما استطاعوا من ممتلكاتهم لا سلطان يمنعهم ولا يقدر على ذلك ، لأن أمير بغداد ، كان يعتز بهم ،
__________________
(١) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٥.
(٢) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٥ ـ ١٢٦.