قريش ، في وقت قد تضرّمت الهواجر ، وتوقّدت السمائم ، فلمّا وصلت منها إلى مشهد الكاظم عليهالسلام واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة ، المحفوفة بحدائق الغفران ، أكببت عليها بعبرات متقاطرة ، وزفرات متتابعة ، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر ، فلمّا رقأت العبرة ، وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه ، وتقوّس منكباه ، وثفنت جبهته وراحتاه ، وهو يقول لآخر معه عند القبر : يا ابن أخي! لقد نال عمّك شرفا بما حمّله السيّدان من غوامض الغيوب ، وشرائف العلوم الّتي لم يحمل مثلها إلّا سلمان ، وقد أشرف عمّك على استكمال المدّة وانقضاء العمر ، وليس يجد في أهل الولاية رجلا يفضي إليه بسرّه ، قلت : يا نفس! لا يزال العناء والمشقّة ينالان منك باتعابي الخفّ والحافر في طلب العلم ، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدلّ على علم جسيم وأثر عظيم ، فقلت : أيّها الشيخ! ومن السيّدان؟ قال : النجمان المغيّبان في الثرى بسرّمن رأى ، فقلت : إنّي اقسم بالموالاة ، وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إنّي خاطب علمهما ، وطالب آثارهما ، وباذل من نفسي الأيمان المؤكّدة على حفظ أسرارهما ، قال : إن كنت صادقا فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم ، فلمّا فتّش الكتب وتصفّح الروايات منها قال : صدقت ، أنا بشر بن سليمان النخّاس ، من ولد أبي أيّوب الأنصاري ، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد عليهماالسلام ، وجارهما بسرّمن رأى ، قلت : فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما ، قال : كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري عليهماالسلام فقّهني في أمر الرقيق ، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلّا بإذنه ، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتّى كملت معرفتي فيه ، فأحسنت الفرق [فيما] بين الحلال