سبب نزول الآية (١٠٨) وما بعدها :
كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود ، حسدا للعرب ، إذ خصّهم الله برسوله ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية (١٠٩).
وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، قال : نعم ، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل ، إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) الآية.
التفسير والبيان :
نزل القرآن منجما مفرقا على وفق المناسبات والحوادث والوقائع ، أخذا بمبدإ تربوي ناجح ألا وهو التدرج في التشريع لإصلاح المجتمع العربي الجاهلي تدريجيا ، ومراعاة للمصالح ، وتمكينا من التخلص من العادات والتقاليد الموروثة شيئا فشيئا ، وإعدادا للحكم الشرعي المستقر ، بتقبل النفوس له وتربيتها على وفق الغاية الشرعية بنحو بطيء ، واقتناع عقلي ذاتي بأفق التشريع ومراميه البعيدة ، فإذا توافرت المصلحة العامة للأمة بقي الحكم ، وإن لم تتوافر عدّل أو بدل ونسخ.
والنسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر يكون إما بنسخ لفظ الآية ومعناها ، أو أحدهما ، أو بانتهاء الحكم المستفاد منها مع بقاء نصها. كل ذلك بحسب المصلحة أو الحاجة ، كالطبيب الذي ينوّع الأدوية والأغذية باختلاف الأزمنة والأمزجة والأحوال الصحية ، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أطباء الأمة ، ومصلحو النفوس ، يوحى إليهم بتبديل الحكم الشرعي لمراعاة الأحوال الحاضرة أو المستقبلية ، فما قد يصلح علاجا في الماضي قد لا يصلح في المستقبل. وذلك كله يدل على مرونة الإسلام.