ـ إنه القرآن الذي يدعو إلى شريعة العدل والحق والرحمة العامة بالإنسانية ، ويدعو إلى منهج سليم للحياة والفكر والتصور والسلوك ، وإلى نظرة شاملة للوجود توضح علاقة الإنسان بالله تعالى وبالكون والحياة.
وهي دعوة قائمة على العلم والمعرفة الصحيحة والتجربة ، والعقل والفكر الناضج الذي لا يفتر من كدّ الذهن وتشغيل المدارك ، والنظر في هذا الكون سمائه وأرضه ، برّا وبحرا وجوّا ، وهي دعوة أيضا إلى القوة والعزة والكرامة والثقة والاعتزاز بشريعة الله ، والاستقلال ، مع الاستفادة من علوم ومعارف الآخرين ، لأن العلم ليس حكرا على شعب دون شعب ، وإنما هو عطاء إنساني عام ، كما أن تحرير الإنسان وتحقيق إنسانيته العليا هدف إلهي عام ، يعلو على مصالح الطغاة والمستبدين الذين يحاولون مصادرة إنسانية الإنسان من أجل الإبقاء على مصالحهم الخاصة ، واستعلائهم على غيرهم ، وتسلطهم على بني البشر.
ولن يتأثر الاعتقاد بأصالة دعوة القرآن الخيّرة هذه إلى الناس كافة ، بما يوضع أمامها من عراقيل ، أو يبث حول جدارتها من شكوك أمام النهضة الحضارية المادية الجبارة ، لأن هذه الدعوة ليست روحانية مجردة ، ولا فلسفة خيالية أو نظرية بحتة ، وإنما هي دعوة واقعية مزدوجة تضم بين جناحيها الدعوة إلى عمارة الكون ، وبناء الدنيا والآخرة معا ، وتعاضد الروح والمادة معا ، وتفاعل الإنسان مع كل مصادر الثروة في هذا الكون ، الذي سخّره الله تعالى للإنسان وحده استعمالا وانتفاعا ، واستنباطا واختراعا ، وإفادة واستكشافا مستمرا ، كما قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٩].
والمهم من التفسير والبيان مساعدة المسلم على تدبّر القرآن الكريم المأمور به في قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص ٣٨ / ٢٩].