فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق ، أم الله الخالق لذلك ، المقدر المصور له؟!
(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم ، فمنكم من يموت كبيرا ، ومنكم من يموت صغيرا ، ولكن الكل سواء فيه ، وما نحن بمغلوبين ، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم ، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها ، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت ، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم ، لتستمر الحياة البشرية ، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال ، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.
وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث ، وصدق الرسل في الحشر ، لأن قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ، ولما كان قادرا على الخلق أولا ، كان قادرا على الخلق ثانيا.
ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق ، فقال :
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ، فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم من هيكل عظمي ، ثم كساكم باللحم ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة ، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى ، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] ، وقال سبحانه : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٦٧] ، وقال عزوجل : (قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)