الابتلاء قاهرة غالبة على من تغلبها ، لذلك يبلوهم ذلك القائد الرصين الأمين بالعطاش ليعلم من يتصبّر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ولقد اقتسموا في ذلك الابتلاء إلى ثلاثة أقسام:
فمن شرب منه فليس مني كيفما كان شربه فانه مخرج (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) و (لَمْ يَطْعَمْهُ) لا تعني ـ فقط ـ من لم يشرب منه ، فقد لا يشرب ولكنه يطعم ، وهو عوان بين «فليس مني ـ و ـ فانه مني» برزخا بين الأمرين ، لا هو مخرج ولا هو في صميم الجيش.
ثم الاستثناء (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) يسمح الاغتراف لمن لم يطعمه ، ولا يعني الشرب بالاغتراف ، إنما هو ـ فقط ـ اغتراف دون شرب منه ولا طعم ، فهم ـ إذا ـ أربعة أقسام :
من شرب منه ـ من طعم منه ـ من لم يطعم واغترف ـ من لم يطعم ولم يغترف.
(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إذا فليسوا من القائد ، ولينفصلوا عن الجيش الزاحف فإنهم بذور ضعف وخذلان ، وهزيمة في الميدان ، إذ ليست الغلبة بضخامة العدد ، فإنها وخامة إن لم يصلح العدد ، إنما هي بالقلب الصامد مهما قلوا وكثر العدو.
فهذه أولى الغربلات في الجيش بعد فصله عن القوم ، وغربلة ثانية في الذين طعموا منه دون شرب ، وثالثة ، الذين لم يطعموا واغترفوا غرفة ، وبقيت القلة القليلة بمن سوى الأولين المخرجين ، وهم كل من لم يشربوا منه ، وهم كلهم (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مهما اختلفت درجاتهم الثلاث :