وهذه الآية لا تحصر الجزاء بمن ذكروا فيها ، وإنما الحدود المذكورة فيها تختص بهم ، وإن كانت هناك حدود أخرى أعلى أو أدنى بالنسبة لغيرهم غير المذكورين في الآية. وكما أن (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) تعميم بعد تخصيص ، كذلك (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص.
فأرض الإفساد إن كانت كل الأرض فالنفي أيضا هو من كل الأرض غرقا أو سجنا ، وإن كانت أرض الإسلام فالنفي أيضا منها ، وإن كانت موطنه فالنفي منها ، وإن كان شغله فالنفي منه ، فليناسب المنفي أرض الإفساد ، وذلك يختص بمن لا يتوب قبل القدرة عليه ، وأما التائب فقد عالج نفسه قبل أن يعالج أو يدفع ضره وشره ، وليحاول في إصلاح الساعين في الأرض فسادا ، ولا سيما الذين لا يعلمون فيفسدون.
وكما أمر الله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) (١٦ : ١٢٥) فليكن الجو جو التربية الإسلامية ، فالمحارب أو الساعي في الأرض فسادا إذا لم يتب رغم الجو التربوي ، فهو ـ إذا ـ معاند لا علاج له إلّا إحدى المعاقبات الثمان ف (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) لا تعني توبة دون سبب ، بل لا يمكن دون سبب والسبب هو العلم والمعرفة والنصيحة دون الخوف ، حيث التوبة بعد القدرة لا تقبل لأنها إيمان عند رؤية البأس.
وليس القتل والصلب إلّا لمن لا علاج له إلّا الإعدام كما والنفي عن كل الأرض ، ثم هما ليسا إلّا للمحارب أو الساعي في إفساد الدين ، والعقل والنفس ، وأما الساعي في إفساد العرض أو المال فلا قتل فيه ، فإن اختلاف درجات النواميس يحكم باختلاف العقوبات في إفسادها دون ريب.
وقد تعني الأرض المنفي عنها أرض الجريمة نفيا لسعيه في الإفساد سلبا لظرفه ووسيلته ، ومن ذلك إسقاطه عن شغله الذي يتذرع به إلى السعي في الإفساد.