والمشكاة هنا هي مشكاة النبوة : مجمع الأنوار كلها ومصدرها : الرسول الأقدس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! فإنه النبيون أجمع وهو الهداة والصالحون أجمع ، والمشكاة هي الكوّة الزجاجية غير النافذة التي يوضع فيها المصباح ، لتمنع شعلته عن الرياح ، وتحصر نوره وتجمعه فيبدو قويا متألقا (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) تقيّة الريح ، وتصفية النور ، وزيادة التألق ، لا سيما (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) : عظيم كثير النور ، ثم المصباح داخل الكوكب الدري داخل المشكاة (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) فزيته من (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ)(١) وهي «زيتونة» لا كسائر الزيتونة شرقية وغربية وهي ليست بالتي ترام بل هي (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) فإنما الشرق أوسطية وهي أصلح زيتونة على وجه الأرض وأطيبها ، وهي في صفائها لحد : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) إذا فنورها (نُورٌ عَلى نُورٍ).
أترى لماذا يمثل النور المحمدي وهو نور الأنوار ، بمثل هو أدنى منه بدرجات ، والمثل أمثل ـ دوما ـ من الممثل؟ لأن القصد هنا من المثل تقريب المحتد من النورانية المحمدية إلى أفكار من لا يعرفونه حق المعرفة ، تمثيلا من المحسوس لغير المحسوس ، لأن المحسوس أقرب إلى معرفتهم ، مهما كان غير المحسوس أعلى منه بما لا يعد أو يحد ، فهنا تكفي من الأولوية واجهة الإحساس.
ثم الأولوية المطلقة في المثل ، هي فيما إذا كانا مثلين ، محسوسين أو غير محسوسين ، وهذه سنة الله في تقريب الحقائق إلى الأذهان.
__________________
(١) الدر المنثور ٥ : ٥٠ ـ اخرج عبد بن حميد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن عمران رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ائتدموا بالزيت وادهنوا به فانه يخرج من شجرة مباركة.