يتبين لهم أنه الحق بما زاغوا عن الآيتين :
فهب إنهم لم ينذروا ولا آباءهم ، فلما ذا لم ينظروا إلى الآفاق حتى يعتبروا ، ولماذا لم ينظروا إلى أنفسهم حتى يتبصروا؟ فلما ركزت في أنفسهم عوامل الغفلة العامدة أنساهم الله أنفسهم (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) وأعماهم عن آفاقهم فهم لا يبصرون (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٥٩ : ١٩) (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢٠ : ١٢٦).
(إِنَّا جَعَلْنا) بجمعية صفات الجلال الانتقام يوم الدنيا (فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) وليس على أعناقهم ، وإنما «في» المشيرة إلى أن «أغلالا» جعلت دواخل أعناقهم ، وتملكه ذواتهم فلا يملكون فكّها ، ثم (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أغلالا متراكبة طول الأعناق إلى الأذقان ، فلا مجال لهم في حراكها على أية حال (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) : رافعون رؤوسهم كالمتأبّي ، كبعير قامح ، يرفع رأسه تأنفا فلا يشرب ماء ولا يأكل كلاء ، وكأنهم شبّهوا ـ في تكارههم للإيمان وتضايق صدورهم لسماع القرآن ـ بقوم عوقبوا فجذبت أذقانهم بالأغلال إلى صدورهم ، مضمومة إليها أيمانهم ، ثم رفعت رؤوسهم ليكون ذلك أشد لإيلامهم وأبلغ في عذابهم!
هؤلاء الحماقي الطغاة الغافلون البغاة أصبحوا رافعي الرؤوس كأنهم لا يملكون انحناء وإن لصالح أنفسهم ، متأبّين عن شربة ماء الحياة ، ولا يملكون النظر إلى أنفسهم ليدركوا آياتها ، ويلمسوا حاجاتها ، حارمين أنفسهم عن النظر إليها وإلى آيات الله فيها ، وليتهم لم يحرموا النظر إلى آياته في الآفاق ، كي يتبصروا بها ويرجعوا إلى أنفسهم منتبهين ، ولكن : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(٩) إنهم سدّت عليهم منافذ الرؤية للآفاق كما سدّت عليهم