فقد شاءت إرادة الربّ سبحانه أن يطلّ أمير المؤمنين عليه السّلام على الدنيا في وقت إرهاصات النبوّة ، ليتربّي في حجر ابن عمّه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله دون أن تنجّسه الجاهلية بأنجاسها ، أو تلبسه من مدلهمّات ثيابها ، وأن يحرز قصب السبق إلى الغسلام مكرّماً وجهه عن الشرك وعبادة الأصنام.
لقد تضاعف إبتهاج النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله بولادة أمير المؤمنين عليه السّلام وتمّت بالوليد مسرّته ، فكان يلي تربيته ، وبراعيه في نومه ويقظته ، ويحمله على صدره وعاتقه ، يحبوه بألطافه وتحفه ، ويقول : «هذا أخي وناصري ، وصفيّي ووصيّي ، وذخيرتي وكهفي» وكان يحمله ويطوف به جبال مكّة وشعابها ، وأوديتها وفجاجها (١).
وهكذا حصل الوصيّ على شرف التربية النبويّة منذ نعومة أظفاره بعيداً عن أباطيل الجاهليّة ، مقتدياً بمكارم أخلاق معلّمه العظيم صلّى الله عليه وآله ، ومتأثّراً بعظمة نفسه وطهره ونقاء ضميره وحسن سيرته وسلوكه ، وأشار عليه السّلام إلى آثار تلك التربية الربانيّة بقوله :
«قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَيدٌ ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ ، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ، ويَمِسُّنِي جَسَدَهُ ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ ، وَكَانَ يَمْضَعُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ ، وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلّى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِوَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَهُ ونَهَارَهُ ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَخْلَاقِهِ عَلَماً ، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ...» (٢).
__________________
(١) إثبات الوصية (للمسعودي) ١٢١ ، وكنز الفوائد (للكراجكي) ١ : ٢٥٥.
(٢) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح) : ٣٠٠ ، خ ١٩٢.