(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)
____________________________________
الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها. قيل كلموها شفاها كرامة لها أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الإجماع على أنه تعالى لم يستنىء امرأة وقيل ألهموها (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أولا حيث تقبلك من أمك بقبول حسن ولم يتقبل غيرك أنثى ورباك فى حجر زكريا عليهالسلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية (وَطَهَّرَكِ) أى مما يستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهود بانطاق الطفل (وَاصْطَفاكِ) آخرا (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) بأن وهب لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آية للعالمين فعلى هذا ينبغى أن يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مرارا من التنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير ولو روعى الترتيب الخارجى لتبادر كون الكل شيئا واحدا وقيل المراد بالاصطفاءين واحد والتكرير للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكال فى ترتيب النظم الكريم إذ يحمل حينئذ الاصطفاء على ما ذكر أولا وتجعل هذه المقاولة قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام إيذانا بكونها قبل ذلك متوفرة على الطاعات والعبادات حسبما أمرت بها مجتهدة فيها مقبلة على الله تعالى متبتلة إليه تعالى منسلخة عن أحكام البشرية مستعدة لفيضان الروح عليها (يا مَرْيَمُ) تكرير النداء للإيذان بأن المقصود بالخطاب ما يرد بعده وأن ما قبله من تذكير النعم كان تمهيدا لذكره وترغيبا فى العمل بموجبه (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أى قومى فى الصلاة أو أطيلى القيام فيها له تعالى والتعرض لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوب الامتثال بالأمر (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغة فى إيجاب رعايتها وإيذانا بفضيلة كل منها وإصالته وتقديم السجود على الركوع إما لكون الترتيب فى شريعتهم كذلك وإما لكون السجود أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ولا يقتضى ذلك كون الترتيب الخارجى كذلك بل اللائق به الترقى من الأدنى إلى الأعلى وإما ليقترن اركعى بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوع فى صلاتهم ليسوا مصلين وأما ما قيل من أن الواو لا توجب الترتيب فغايته التصحيح لا الترجيح وتجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعات كما فى قوله تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) وبالسجود الصلاة لما مر من أنه أفضل أركانها وبالركوع الخشوع والإخبات. قيل لما أمرت بذلك قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من الأمور البديعة وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علو شأن المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أى من الأنباء المتعلقة بالغيب