(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٣٤)
____________________________________
نزاهته سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوى والأخروى معا من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده حيث اقتصر على نفى التعذيب الدنيوى عنه تعالى ليثبت نفى التعذيب الأخروى عنه تعالى على الوجه البرهانى بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذبهم بعذاب يسير منقطع بدون إنذار فلأن لا يعذبهم بعذاب شديد مخلد أولى وأجلى ولو علل بما ذكر من نفى التعذيب لانصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلام من نفى التعذيب الأخروى ونفى التعذيب الدنيوى غير متعرض له لا صريحا ولا دلالة ضرورة أن نفى الأعلى لا يدل على نفى الأدنى ولأن ترتب التعذيب الدنيوى على الإنذار عند عدم تأثر المنذرين منه معلوم مشاهد عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيب الأخروى أيضا كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذار أشد انزجار هذا هو الذى تستدعيه جزالة النظم الكريم وأما جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهمالسلام وانذارهم وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور فبمعزل من مقتضى المقام والله سبحانه أعلم (وَلِكُلٍّ) أى من المكلفين من الثقلين (دَرَجاتٌ) متفاوتة وطبقات متباينة (مِمَّا عَمِلُوا) من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة فإن أعمالهم درجات فى* أنفسها أو من جزاء أعمالهم فإن كل جزاء مرتبة معينة لهم أو من أجل أعمالهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) * فيخفى عليه عمل من أعمالهم أو قدر ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرىء بالتاء تغليبا للخطاب على الغيبة (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) مبتدأ وخبر أى هو المعروف بالغنى عن كل ما سواه كائنا من كان وما كان فيدخل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم وفى التعرض لوصف الربوبية فى الموضعين لا سيما فى الثانى لكونه موقع الإضمار مع الإضافة إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم من إظهار اللطف به صلىاللهعليهوسلم وتنزيه ساحته عن توهم شمول الوعيد الآتى لها أيضا ما لا يخفى وقوله تعالى (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر آخر أو هو الخبر والغنى صفة أى يترحم عليهم بالتكليف* تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصى وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيد لقوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أى ما به حاجة إليكم إن يشأ يذهبكم أيها العصاة وفى تلوين* الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أى من بعد إذهابكم (ما يَشاءُ) من الخلق* وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) * أى من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحما عليكم وما فى كما مصدرية ومحل الكاف النصب على أنه مصدر تشبيهى على غير الصدر فإن يستخلف فى معنى ينشىء كأنه قيل وينشىء إنشاء كائنا كإنشائكم الخ أو نعت لمصدر الفعل المذكور أى يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم الخ والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة (إِنَّ ما تُوعَدُونَ)