لأن المتكلّم بها لا بدّ أن يكون متأخّرا عن يابر تأخيرا كثيرا ، كما يشعر به قوله إلى هذا اليوم. لأن أمثال هذا اللفظ لا يستعمل إلّا في الزمان الأبعد ، على ما حقّق المحقّقون من علمائهم ، كما ستعرف عن قريب. قال الفاضل المشهور هورن لبيان هاتين الفقرتين اللتين نقلتهما في الشاهد الثاني والثالث ، في المجلد الأول من تفسيره : «هاتان الفقرتان لا يمكن أن تكونا من كلام موسى عليهالسلام ، لأن الفقرة الأولى دالّة على أن مصنّف هذا الكتاب بعد زمان قامت به سلطنة بني إسرائيل ، والفقرة الثانية دالّة على أن مصنّفه بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين. لكن لو فرضناهما إلحاقيتين لا يتطرّق الخلل في حقّيّة الكتاب. ومن نظر بالنظر الدقيق علم أن هاتين الفقرتين ليستا بلا فائدة فقط ، بل هما تثقلان على متن الكتاب ، سيما الفقرة الثانية ، لأن مصنّفه ، موسى كان أو غيره ، لا يقول لفظ هذا اليوم. فالأغلب أنه كان في الكتب بهذا القدر : فيابر بن منسا ورث كل أرض أرغوب إلى تخوم جاسور ومعكاتي وسمّى باسان باسمه جالوث يابر. ثم بعد قرون زيد هذا اللفظ في الحاشية ليعلم أن الاسم الذي سمّاها يابر به هو اسمها إلى الآن. ثم انتقلت تلك العبارة عن الحاشية إلى المتن في النسخ المتأخرة. ومن كان شاكّا في هذا الأمر فلينظر النسخ اليونانية ، يجد فيها أن الإلحاقات التي توجد في متن بعض النسخ هي توجد في النسخ الأخرى على الحاشية». انتهى. فاعترف أن هاتين الفقرتين لا يمكن أن تكونا من كلام موسى عليهالسلام وقوله : (فالأغلب إلخ) يدلّ على أنه ليس عنده سند هذا الأمر سوى زعمه ، وعلى أن هذا الكتاب بعد القرون من تأليفه كان صالحا لتحريف المحرّفين ، لأن هذا اللفظ ، بحسب اعترافه ، زيد بعد قرون. ومع ذلك صار جزءا من الكتاب وشاع في جميع النّسخ المتأخرة وقوله : (لو فرضناهما إلحاقيتين لا يتطرّق الخلل في حقّيّة الكتاب) يدلّ على التعصّب ، وهو ظاهر. وقال الجامعون لتفسير هنري واسكات ذيل الفقرة الثانية : «الجملة الأخيرة إلحاقية ألحقها أحد بعد موسى عليهالسلام ، ولو تركت لا يقع الفساد في المضمون». أقول تخصيص الجملة الأخيرة لغو ، لأن الفقرة الثانية كلها لا يمكن أن تكون من كلام موسى كما اعترف به هورن (١).
الشاهد الرابع : الآية الأربعون من الباب الثاني والثلاثين من سفر العدد : «فأما يابر بن منسا فعمد أخذ دساكرها ودعاها جالوت يابر التي هي قرى يابر». حال هذه الآية كحال آية سفر الاستثناء. وقد علمت في الشاهد الثالث وفي دكشنيري بيبل ، الذي طبع في أمريكا
__________________
(١) بقي في الفقرة الثانية شيء آخر وهو أن يابر ليس ابن منسا ، بل هو ابن ساغب ، كما هو مصرّح في الآية الثانية والعشرين من الباب الثاني من السفر الأول من أخبار الأيام.