القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به ، فحيث ما أتوا به ظهر الإعجاز. وثانيهما : ان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وإن كان متهما عندهم في أمر النبوّة ، لكنه كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب. فلو كان كاذبا ما تحداهم بالغا في التحدي إلى النهاية ، بل كان عليه أن يخاف مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره. فلو لم يعلم بالوحي عجزهم عن المعارضة لما جاز أن يحملهم عليها بهذا التقريع. وثالثها : انه لو لم يكن قاطعا في أمره لما قطع في أنهم لا يأتون بمثله ، لأن المزوّر لا يجزم بالكلام ، فجزمه يدل على كونه جاز ما في أمره. ورابعها : انه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأنه من عهده عليهالسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام ، وتشددوا عليه في الوقيعة فيه ، ثم أنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط. فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على الإعجاز مما تشتمل عليه هذه الآية. فهذه الأخبار وأمثالها تدل على كون القرآن كلام الله لأن عادة الله جارية على أنّ مدّعي النبوّة لو أخبر عن شيء ونسب إلى الله كذبا لا يخرج خبره صحيحا. في الباب الثامن عشر من كتاب الاستثناء هكذا : «فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميّز الكلام الذي لم يتكلمه الرب ، فهذه تكون لك آية ان ما قاله ذلك النبيّ باسم الرب ولم يحدث ، فهذا الرب لم يكن تكلم به ، بل ذلك النبيّ صوّره في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه».
الأمر الرابع : (١) ما أخبر من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة. وقد علم أنه كان أميا ما قرأ ولا كتب ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء ولا مجالسة مع الفضلاء ، بل تربّى بين قوم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعرفون الكتاب وكانوا عارين عن العلوم العقلية أيضا ، ولم يغب عن قومه غيبة يمكن له التعلم فيها من غيرهم. والمواضع التي خالف القرآن فيها ـ في بيان القصص والحالات المذكورة ـ كتب أهل الكتاب ، كقصة صلب المسيح عليهالسلام وغيرها ، فهذه المخالفة قصدية ، إما لعدم كون بعض هذه الكتب أصلية كالتوراة والإنجيل المشهورين ، وإما لعدم كونها إلهامية. ويدل على ما ذكرت قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
الأمر الخامس : ما فيه من كشف أسرار المنافقين حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد. وكان الله يطلع رسوله على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل. فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق. وكذا ما فيه من كشف حال اليهود وضمائرهم.
__________________
(١) يتابع المؤلّف تفصيل الأمور المشتمل عليها الفصل الأول من الباب الخامس ، والتي يتأيّد بها أن القرآن كلام الله. وقد سبق تفصيل ثلاثة أمور ...