الأمر السادس : جمعه لمعارف جزئية وعلوم كلية لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلىاللهعليهوسلم ، خاصة من علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقلية والسير والمواعظ والحكم وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والشيم وتحقيق الكلام.
في هذا الباب أن العلوم إما دينية أو غيرها. ولا شك أن الأولى أعظمها شأنا وأرفعها مكانا. فهي إما علم العقائد والأديان ، وإما علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، أما معرفة الله تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه وأفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه. والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يسويه شيء من الكتب ، بل لا يقرب منه. وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن ، وإما أن يكون علم التصوّف المتعلق بتصفية الباطن ورياضة القلوب. وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يوجد في غيره. كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ...) [النحل : ٩٠] ، وقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤]. فقوله «ادفع بالتي هي أحسن» يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالخصلة التي هي أحسن ، وهي الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة. وقوله : «فإذا الذي ... إلخ» يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة ، تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغضة إلى المودة. ونحو هذه أقوال كثيرة فيه. فثبت أنه جامع لجميع العلوم النقلية أصولها وفروعها. ويوجد فيه التنبيه على أنواع الدلالات العقلية ، والرد على أرباب الضلال ببراهين قاهرة وأدلّة باهرة ، سهلة المباني ، مختصرة المعاني ، كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ...) [يس : ٨١] ، وكقوله تعالى : (... يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) [يس : ٧٩] ، وكقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ...) [الأنبياء : ٢٢]. ولنعم ما قيل : جميع العلم في القرآن ، لكن تقاصر عنه افهام الرجال.
الأمر السابع : كونه بريئا عن الاختلاف والتفاوت ، مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم. فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة ، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفكّ عن ذلك. ولما لم يوجد فيه ذلك ، علمنا أنه ليس من عند غير