أكلتم أمس أو قبل أمس ، لا يكون هذا محفوظا لأكثرهم غالبا لعدم الاهتمام بهذا الأمر وعدم كونه عجيبا أو عظيما. وهكذا الحال في أكثر الأفعال العامة والأقوال العامة. وإذا سألت عن حال الكوكب الذي كان من ذوات الأذناب وظهر في شهر صفر سنة ١٢٥٩ من الهجرة وشهر مارس سنة ١٨٤٣ من الميلاد وكان ظاهرا في الجوّ إلى شهر وكان في غاية الطول ، يكون محفوظا للكثيرين من ناظريه ، وإن لم يكن شهر ظهوره وعامه محفوظين لهم ، وقد مضت عليه مدة أزيد من إحدى وعشرين سنة. وكذلك حال الزلازل العظيمة والمحاربات الشديدة والأمور النادرة. ولما كان اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في كل قرن ، يوجد فيهم من حفاظ القرآن في هذا العصر أيضا أزيد من مائة ألف في الديار الإسلامية كلها ، وإن زالت سلطنة أهل الإسلام من أكثر أقطار الممالك ، ووقع الفتور في الأمور الدينية في أكثر أقطارهم ومن كان شاكا في هذا الأمر من المسيحيين فليجرّب وليدخل في الجامع الأزهر فقط ، فيجد في كل وقت أكثر من ألف حافظ من حفّاظ القرآن الذي حفظوه بالتجويد التام. ولو تتبع قرى مصر لا يجد قرية من قرى أهل الإسلام تكون خالية عن حفّاظ القرآن ووجد كثيرا من البغّالين والحمّارين من أهل مصر أيضا حافظين للقرآن. فإن أنصف اعترف البتة أن هؤلاء الحمارين والبغالين فائقون في هذا الباب على البابا والأساقفة والقسوس الذين يوجدون شرقا وغربا في هذا الزمان الذي هو زمان شيوع العلم في المسيحيين ، فضلا عن القرون السالفة المسيحية من الجيل السابع إلى الجيل الخامس عشر التي كان الجهل فيها بمنزلة شعار العلماء في تلك القرون ، على اعتراف علماء پروتستنت. وظني أنه لا يوجد في جميع ديار أوروبا كلها عشرة من حفاظ الإنجيل أو التوراة أو كليهما ، بحيث يساوي حفظهم لأحدهما أو لكليهما حفظ هؤلاء البغالين والحمارين للقرآن. وقد عرفت في الفائدة الأولى قول ارينيوس أنه قال : «سمعت بفضل الله هذه الأحاديث بالإمعان التام وكتبتها في صدري لا في قرطاس ، وعادتي من قديم الأيام أني أكررها بالديانة». وقال أيضا : «ألسنة الأقوام وإن كانت مختلفة ، لكن حقيقة الرواية اللسانية متحدة في كل موضع. فإن كنائس الجرمن ليست مخالفة في التعليم والعقائد لكنائس فرانس وإسبانيا والمشرق ومصر وليبيا». وقال وليم ميور في الباب الثالث من تاريخ كليسيا المطبوع سنة ١٨٤٨ : «القدماء المسيحية ما كان عندهم عقيدة مكتوبة من عقائد الإيمان التي اعتقادها ضروري للنجاة. وكانت تعلّم للأطفال وللذين كانوا يدخلون في الملة المسيحية تعليما لسانيا. وهذه العقائد كانت متحدة قربا وبعدا ، ثم لما ضبطوها بالكتابة وقابلوها ووجدوها مطابقة ، وما وجدوا فيها غير الاختلاف القليل اللفظي ، وما كان فرق في أصل المطلب». انتهى كلامه. فعلم أن الأمر الذي يكون مهتما بشأنه يكون محفوظا ولا يتطرق فيه خلل بمرور مدة طويلة. وهذا الأمر ظاهر في القرآن. وقد مضت مدة ألف ومائتين