الحالات التي اتفق على نقلها الإنجيليون الأربعة آحاد لا يزيد اعتبارها عندنا على رواية الآحاد ، كما عرفت في الباب الأول.
المسلك الثاني : (١) انه قد اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة والأوصاف الجزيلة والكمالات العلمية والعملية ، والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن ، ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع في غير نبيّ. فإن كل واحد منها ، وإن كان يوجد في غير النبيّ أيضا ، لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء. فاجتماعها في ذاته صلىاللهعليهوسلم من دلائل النبوّة. وقد أقر المخالفون أيضا بوجود أكثر هذه المحاسن في ذاته صلىاللهعليهوسلم. مثلا اسپان هميس المسيحي من الذين هم أشد أعداء النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والطاعنين في حقه. لكنه اضطر في الإقرار بوجود أكثر الأمور المذكورة في ذاته صلىاللهعليهوسلم ، كما نقل سيل قوله في مقدمة ترجمة القرآن في الصفحة السادسة من النسخة المطبوعة سنة ١٨٥٠ هكذا : «إنه كان حسن الوجه وذكيا ، وكانت طريقته مرضية. وكان الإحسان إلى المساكين شيمته. وكان يعامل الكل بالخلق الحسن. وكان شجاعا على الأعداء. وكان يعظم اسم الله تعظيما عظيما. وكان يشدد على المفترين والذين يرمون البرآء ، والزانين والقاتلين وأهل الفضول والطامعين وشهود الزور ، تشديدا بليغا. وكانت كثرة وعظه في الصبر والجود والرحم والبر والإحسان وتعظيم الأبوين والكبار وتوقيرهم وتكريمهم. وكان عابدا مرتاضا في الغاية». انتهى كلامه.
المسلك الثالث : من نظر إلى ما اشتملت شريعته الغراء عليه مما يتعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والسياسات والآداب والحكم ، علم قطعا أنها ليس إلّا من الوضع الإلهي والوحي السماوي ، وأن المبعوث بها ليس إلا نبيا. وقد عرفت في الباب الخامس أن اعتراضات القسيسين عليها ضعيفة جدا منشؤها العناد الصرف والاعتساف.
المسلك الرابع : انه عليهالسلام ادّعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم أني بعثت من عند الله بالكتاب المنير والحكمة الباهرة لأنوّر العالم بالإيمان والعمل الصالح ، وانتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره ، مخالفا لجميع أهل الأرض آحادهم وأوساطهم وسلاطينهم وجبابرتهم ، فضلّل آراءهم وسفّه أحلامهم وأبطل مللهم وهدم دولهم وظهر دينه على الأديان في مدة قليلة شرقا وغربا ، وزاد على مر الأعصار والأزمان ، ولم يقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم وشدة شكوتهم وشكيمتهم وفرط تعصبهم وحميتهم وبذل غاية جهدهم
__________________
(١) للتذكير : كان المؤلف قد أشار في بداية الفصل الأول من هذا الباب ص ٣٨٣ أنه جعل هذا الفصل ستة مسالك. وكل ما ورد سابقا من أصل وتقسيم ومتفرّع إنما هو تفصيل للمسلك الأول ... ويتابع المؤلف هنا إيراد المسالك الباقية.