ثم إنّ القوّة اللامسة قد مرّ أنها سارية في جميع البدن والأعضاء ، على تخالف مزاجها ، ومزاج الروح الحامل للقوة ، إلّا ما يكون عدم الحس أنفع له ، كالكبد ، والرئة ، والطحال ، والكلية ، والعظم ، فقوام هذه القوّة إنما هو بما به قوام الحيوان ، بما هو حيوان ، أعني كيفية الصورة العنصرية المتوسطة بين الأربع ، فهذه القوّة أيضا من جنس الكيفيات الأول الملموسة ، لكنها بتوسّطها المزاجي ناقصة الكيفية ، بمنزلة الخالي عنها ، القابل لها بالقوة ، فهي إنّما تدرك الأطراف بهذا التوسّط الّذي هو بمنزلة الخالي عن الأضداد ، ولهذا كلما كان مزاج الحيوان أقرب إلى الاعتدال كانت هذه القوّة فيه أقوى ؛ وذلك لأنّ طبيعتها كطبيعة الحيوان ، ومادّتها كمادته ، فكان صلاحها كصلاحه ، ببقاء الاعتدال ، وفسادها بفساده ، بزوال ذلك الاعتدال ، فيمتنع بقاء الحيوان بدون هذه القوّة ، فهي أدنى درجات القوّة الحيوانية ، وأهم الحواس للحيوان ، ولهذا لا يخلو حيوان ما عن هذه القوّة.
ولما كان شأنها أن يحترز بها عن منافيات المزاج بالهرب والتنحّي ، وجب أن يكون كلّ لامس متحركا بالإرادة ، حتّى أن الاسفنجات ـ الّتي يظنّ فيها خلاف ذلك ـ لها حركة انقباض وانبساط ، ولولاها لما عرف حسّها.
وأمّا القوى الأربع الأخر ، فحالها خالية عن كيفية مدركاتها ؛ لأنها ليست من جنس مدركاتها ، بل هي من جنس الكيفيات الملموسة ، كقوّة اللمس ؛ لأنها أجزاء البدن الّذي هو كذلك ، إلّا أنها لما لم تكن ملاقية لمحالها ، كما في اللمس ، وهذا معلوم في غير الذوق ، وفي الذوق أيضا كذلك ، فإنّ العصبة المفروشة في جرم اللسان غائصة فيه ، والغذاء لغلظته لا يتمكن من الغوص فيه ، فلذلك احتاجت هذه القوى في إدراكاتها إلى توسّط جرم لطيف بين محالها وبين مدركاتها ، ليلاقي بطرفيه كليهما ، فتخالطه أجزاء من جسم ذلك المدرك ،