ومن هذا يظهر ويتبيّن وينكشف ويتحقّق أن في إهاب هذا الحيوان الطبيعي حيوانا آخر من عالم الغيب ، هو في الحقيقة يسمع ، ويرى ، ويشمّ ، ويذوق ، ويلمس ، ويبطش ، ويمشي ، ولهذا يفعل هذه الأفاعيل ، وإن ركدت هذه القوى والحواس البدنية كما في النوم ، والإغماء ، والسكر ، فله في ذاته هذه المشاعر والقوى والآلات من غير عوز ، إلّا أنها ليست ثابتة في عالم الحسّ والشهادة ، وهذه المشاعر الظاهرة بمنزلة ظلال لتلك ، وكذلك هذا البدن الظاهر بمنزلة قشر وغلاف وقالب لذلك البدن ، وإنما حياة هذه كلّها بذاك ، وهو الحيوان بالذات ، وهو المحشور في الآخرة ، الّتي هي دار الحياة ، قال الله سبحانه : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (١) ، كذا أفاد أستاذنا ، سلمه الله (٢).
قال : وممّا يدلّ على ذلك أن النفس الحيوانية تشاهد في قوّة خيالها ووهمها ، أو بهما ، صورا ومعاني مجرّدة عن المادّة وعوارضها ، ممّا ليس بقابل للإشارة الحسية ، فلا يخلو إما أن تكون النفس قابلة لها ، أو فاعلة ، فإن كانت قابلة لها فعدم قبول الحال للإشارة الحسية ، يستلزم عدم قبول المحلّ لها لا محالة ، وإن كانت فاعلة لها فالفاعل فيما لا وضع له لا يجوز أن يكون من ذوات الاوضاع ؛ لما ثبت من أن الجسم وقواه لا يفعل إلّا فيما له وضع بالقياس إلى مادّته ، وكما أن فاعل الأجسام الطبيعية ومقوّماتها لا يمكن أن يكون متعلق الوجود بهذه الأجسام ، كما ثبت ، كذلك مبدأ صورها ، يجب أن لا يكون مادّيا (٣).
__________________
(١) ـ سورة العنكبوت ، الآية ٦٤.
(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٩ : ٧٠.
(٣) ـ أنظر : الشواهد : ١٩٧.