فصل
قد ظهر من تضاعيف ما ذكر أن النفس ـ بما هي نفس ـ لها وجود في نفسها لنفسها ، وقد تمّ وجودها ذلك ، ثمّ عرض لها أن تتصرف في جسم من الأجسام ، تدبّره ، وتحرّكه ، وتغذّيه ، كمن تصرف في بناء ، أو غرس شجرة ، فيكمله ويستكمل به ، إكمالا واستكمالا عرضيين ، خارجين عن هوية ذاته ، كما ظن ، بل إنها ما دامت هي نفس لها وجود ذاتي ، مفتقرة إلى إضافته إلى البدن ، متقوّمة بحسب قواها الحسّية والطبيعية به.
وتصرفها فيه هو بعينه نحو موجوديّتها من هذه الحيثية ، كما أن حلول العرض كالبياض في محله هو نحو وجوده ، فزوال تصرّفها فيه هو بعينه زوال وجودها في نفسها ، من حيث هي نفس ، وإن كانت باقية من حيث إنها جوهر آخر أرفع وأقوى ببقاء بارئها ، ومفيض وجودها ، كما أنها قبل بلوغها إلى درجة النفسية كانت شيئا أضعف ، وأخسّ وجودا من النفس ، فللنفوس نشآت سابقة ولاحقة ، واستكمالات جوهرية ، وتقلبات ، ولها جهة استمرار وجهة تجدد ؛ لتعلّقها بالطرفين ـ العقل والمادّة العنصرية ـ وكلّ من رجع إلى وجدانه وجد أنّ هذه الهوية الحالية منه غير هويّته الماضية ، لا بمجرد اختلاف العوارض ، بل باختلاف أطوار لذات واحدة.
وإلى هذه التقلّبات والأطوار أشير في القرآن المجيد بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١).
__________________
(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.